قُتل صديقي وزميلي وابن مدينتي محمد الهاشمي, قُتل الرجل الذي يقابل إساءتك ومزحك أياً كان نوعه بابتسامة وسعة صدر قلمَّا تعثر عليها في زمن كهذا الضائق بدعابة مرحة وبفكرة مخالفة كتلك التي اختمرت في ذهن الهاشمي وكانت سبباً ــ على ما يبدو ـــ في اغتياله ظُهر الأحد وبرصاصة قاتل خصيم للفكرة كما هو عاجز عن مواجهتها بلغة المنطق والعقل.
الهاشمي أعُدُّه ضحية بيئة مجتمعية غير قابلة بالتعدد الفكري والمذهبي والديني وحتى الاختلاف الحزبي السياسي الذي مازال أسيراً لثقافة الصوت الواحد والرأي الواحد والقناة الواحدة والصحيفة الواحدة والمذهب الواحد.
ضف لهذه البيئة المتصلبة عند معتقداتها الأحادية الشمولية غير متسامحة مع الآخر المختلف حزبياً أو فكرياً أو فقهيا أو مذهبياً, فالهاشمي – أيضاً – ضحية دعوة طارئة دخيلة متكئة على رابطة عصبية وفي جغرافية ليست معضلتها طائفية أو عصبية مثلما هي الحالة في شمال الشمال المنتفض مذ سنوات كيما يسترد شيئاً ممّا ظنه وقتاً حقاً مسلوباً ويجب استرداده من حاكم بات قاب قوسين من توريثه الجمهورية.
نعم جمهورية طالما تبخترت بوصفها نظاماً بديلاً لحكم وراثي أسري وإذا بها تؤول إلى عائلة حاكمة بعثت ما كان مخفياً ومطمورا في صدور من أقصتهم الجمهورية وخاض حروباً ومازال كيما يستعيد مجداً ومكانة تليده تم مصادرتها وإلغاؤها في كنف نظام عائلي قبلي عصبوي ليس له من النظام الجمهوري وحكم الشعب غير المسمى والشكل.
كثيراً ما أقلّني محمد بسيارته من والى مجمع المحافظة ، كما وكثيراً ما استوقفني ضاحكا كيما يحدثني عن مقالة كتبتها أو فكرة أو "قفشة" ساخرة هازئة أو سواها من المسائل التي كانت محل نقاش مستفيض وساخن أحياناً.
ما من مرة يحتدم فيها الجدل في مسألة ما إلا ورأيت وجه محمد ضاحكاً مقهقها ودونما ضيق أو غضب ممَّا يسمعه من كلام يصل أحيانا إلى الإساءة بالطعن بصدقية الفكرة والاسترابة والشك الذي يخالطه المزح البغيض نحو حامل الفكرة المغايرة.
كان ينفح مخالفه ضحكة عريضة نظير غضبه وإساءته لرأيه ،فالراحل ليس من النوع الذي يبغضك ويحقد عليك ولمجرد أنك لست معه. كان قيادياً في المؤتمر ورأسَ أول صحيفة حملت اسم فرع التنظيم بالضالع ، وخلال فترة ما بعد حرب 94م وحتى ثورات الشباب العربي لم يحدث يوماً وأن قابلك بإساءة أو مزايدة رغم سخونة الأوضاع التي عاشتها المحافظة.
قبل بضعة أعوام كان قد انتقل إلى مجمع المحافظة وتحديداً في مكتب السياحة اللصيق بمكتب الإعلام فمن وقت تسنُّمه مسؤولية فرع وزارة السياحة بالضالع ومحمد الهاشمي قريبٌ حميمٌ يشاطرنا الغبن والشكوى والأمل والفرحة والنكتة وحتى المصيبة إذا ما اقتحمتنا بغتة فبكل تأكيد محمد تجده في مقدمة الناعيين أو الساعيين لحل المشكلة وتداركها.
فضلاً عن نُبله وطيب معشره لمست فيه قدرة عجيبة على إصلاح ذات البين وفي كل مكان يتواجد فيه ، فسواءً كان هذا الخلاف بين جيرانه أو أهله أو بين زملائه أو رؤسائه أو مرؤوسيه, فإنه ممّن يبادر دوماً للحل والتوفيق بين الفرقاء على ما في المسألة من مشقة وعناء وأيضا من أذى لفظي وقح ومستفز والذي يقابله ببرود أعصاب وبابتسامة وصبر وخُلق رفيع وأصيل.
في آخر مرة حدثني منزعجاً ممّا طاله من قذع وتكفير وتهديد وترهيب ومن بعض الجهلة المتعصبين لرأي فقهي صاحبه ذا الشيخ أو ذاك. سألني وقتها عن رأيي بمنشور أخرجه من بين كومة ورق بجانبه فيما هو يقود سيارته كما وأراد معرفة موقفي من حملة شعواء قال إنها تستهدفه شخصياً.
قلت له حينها قولة الراحل برصاصة الإرهاب, د فرج فوده : " طلقات الكلاشينكوف ليست إلا تعبيراً عن عجز الكلمات " فالتكفير والترهيب ما هما إلا أداتان دالتان على فشل المنطق والعقل على مواجهة الأفكار المخالفة، فأياً كانوا وكنتم يا صاحبي؛ فالمعركة برمَّتها خاسرة وغير لائقة بكما وبنا
جميعاً.
فسواء كنتم أشياعاً مُغالين في تعصبُّكم لولاية علي ومن بعده سبطه الحسين أو كنتم اتباعا للخلافة الراشدة ومن بعدهم معاوية ومن ثم نجله الطاغية يزيد ، فكلاكما يخوض حربا خاسرة منهكة عمرها الف وأربعمئة عام وإنابة عمّن اقتتلوا وقتئذ في سبيل السلطة لا الدين.
كنتم من أنصار الثأر لسلفية دماج ومعبر ومن اتباع أشياخ الجهاد السني ضد التمدد الرافضي في صعده والجوف وعمران أو أنكم من انصار الله المحاربين لأمريكا واليهود فيما هم يُهجِّرُون ناصبة سنية ينبغي ألا تسود في معقل تشيع .
ففي الحالتين جميعنا سنةً أو شيعةً ، وقوداً لمعركة ثأرية لسنا طرفا فيها أو كنَّا صُنّاعها أو داعين إليها ، بل وعلى العكس أعدُّها معركة منافية للعقل والمنطق وكذا للزمن الذي ننتمي له ونفترض أننا جزءا منه كما وفعلنا يجب أن يتَّسق مع تحدياته وقضاياه ووسائله وأفكاره وحتى معاركه المجترحة الآن ومن اجل إنجاز التفوق العلمي والمعرفي والمعيشي والرفاهي.
ثمانية قرون خاضتها المجتمعات المسيحية في صراع دائم كلفها الملايين من البشر كقرابين تم التضحية بها في خضم خلافها العنيف حول عقيدة التثليث ، فضلا عن حروبها الأخرى التي امتد بعضها لمئة سنة ويزيد.
فيكفي هنا الإشارة إلى ما خلفته الحرب الكونية الثانية الحاصلة قبل ستة عقود فقط إذ كان حجم القرابين المُزهَقة في هذه الحرب وحدها قُرابة خمسين مليون إنسان ؛ ومع هذا الرقم المهول تسامت هذه المجتمعات فوق جراحها ومآسيها وطوت حزنها وذكرياتها المؤلمة . فبدلا من ان تنهك مقدراتها وشعوبها في حروب ثأرية انتقامية لملايينها الهالكة راحت متناسية ومُتَّعظه ومتسامحة لأجل نهضة ورفاهية أجيالها الحاضرة والقادمة.
مرة تالية اذكر أنني قلت له: أتضامن معك وأشاطرك همك وخوفك, فتهديدك والتحريض عليك وبهذه الطريقة العبثية المقززة المكفرة التي تعيدنا لزمن محاكم التفتيش في أوروبا بلا شك مسألة ممقوتة وممجوجة ولا يصح السكوت عليها وفي كافة الأحوال.
وأضفت: ومثلما موقفي معك حيال ما تتعرض له من ترهيب وصل لحد تكفيرك ؛ فإنني بالمقابل لا أؤيدك فكرتك القائلة بان الحل الناجع لتخلف المسلمين سيكون باستعادة عصبية إمامة البطنين بدلاً من سلفية الوهابية المتكلسة عند مفاهيمها الفقهية المغالية في طاعتها العمياء للحكام ولدرجة الاضطهاد والعبودية المهينة والمذلة .
نعم الفكرة تُواجَه بفكرة والمعلومة بالمعلومة وما هو قناعة وعقيدة يستلزمه قناعة وعقيدة مماثلة، فالرصاصة ربما أسكتت خفق قلب نابض ولربما أيضا أهرقت دم إنسان أو أوقفت حياته ؛لكنها دوما وغالبا عاجزة عن وأد قناعة تشكلت وترسخت في ذهن الإنسان وعقله.
أديان السماء وأديان البشر في المحصلة غايتها صيانة وحفظ النفس الآدمية. ما من دين سماوي أو وضعي يجيز قتل الكافر أو المشرك أو حتى الجاحد بالله ما لم يعتدِ ويبغِ ويَجهرْ ويؤذِ ويقتل ويسفك وينتهك وما لم تكن الدولة هي الجهة المكلفة بإحقاق العدالة.
ما من طائفة وما من فرقة وما من جماعة دينية لديها تفويضٌ بقتل المخالفين لها كما ولديها تكليفا خاصا بها لمحاربة الكفرة والفاسقين والمشركين نيابةً عن الرب العلي القدير الذي خصها وميزها عن سواها ! .
جماعة من خلق الله تعد ذاتها معنية بعقاب وزجر وحتى قتل من يخالفها دينيا ومذهبيا ، فحين تقتل وتكفر وتحرم وتجوز وتستحل وترهب فإنها تفعل ذلك طاعة وامتثالا لتفسيرها وتأويلها الأحادي المتنطع بغلوه وتفرده بقراءة وفهم الوحي ووفقاً والصورة الصحيحة التي يريدها الله.
في هذه الحالة تصير النبوءة بالغيب مهمة مناطة متجسدة بشيخ رباط أو بخطيب جامع أو بفتى متعصِّب أو بحافظ جاهل للآيات والاحاديث التي يصعب فصلها عن سياقها التاريخي والمكاني . فكل واحد من هؤلاء بمقام نبي الله يوشع بن نون الوارد ذكره في سورة الكهف فيما نحن في موضع النبي موسى في حيرته واستغرابه وتساؤله .
فمع كل حادثة قتل أو خرق أو إرهاب أو تكفير تجدنا نتساءل : لماذا قتل فلان ؟ وكيف استحل دم علان ؟ ومن هذا الذي عنده علم الغيب بحيث يغدو عدوانه وإرهابه وفعله وحيا من السماء ؟ وكيف يغدو القاتل لنفسه وللآخرين بحزام ناسف ملغوم شهيداً محظياً بالفردوس وحورياته ؟ وكيف أن من يهلك بريئا ومغدورا وآمنا وعدوانا لا معنى لموته أو مكانة أو مغفرة ؟
ختاما .. محمد قُتِل غيلةً وغدراً وعدواناً. صمتنا وتخاذلنا إزاء جريمة بهذه الفظاعة والمجاهرة لن يكون خذلاناً وتفريطاً بدم رجل نحسبه عند الله شهيدا؛ وإنما اعتبره خذلانا وتفريطا بحقنا كطائفة مسلمة فرَّقتها مشارب السياسة وجمعها المذهب والدين الواحد ،وكمواطنين ليس لهم جامع افضل من رابطة الانتماء للموطن الواحد ، وكأناس آدميين متسامحين متعايشين ومدركين بعاقبة المآل الكارثي الذي ينتظرنا جميعاً وفي مكان لم يعهد أبدا ولو حادثة واحدة من هذا القبيل .
الذين يقولون لكم بأن الرصاصة كانت موجهة لشخص بعينه كان رافضياً أو حوثيا أو نصرانيا أو مجوسياً أو يهودياً ودونما مساس بسواه أعدُّهم يجهلون مقدار التبعات الكارثية التالية لجريمة من هذا النوع الوحشي البربري الذي طال في الأساس صميم الحياة الإنسانية المصانة في كافة شرائع السماء أو الأرض.
محمد علي محسن
تباً لقتَلَتك يا محمد يا هاشمي!! 1636