مواطن يمني وكفى؛ فحتى هذا الحق الأصيل الذي يمكن الحصول عليه وفي أي موطن يلد فيه الإنسان ـو يعيش ويكد بات كثيراً علينا وفي موطن لطالما فاخر أهله بكونهم أصحاب حضارة وتاريخ وشورى وحملة لرسالة السماء إلى الأندلس والهند وخراسان وجزر جاوه ومالاوي وإندونيسيا وأصقاع شتى بلغها أوائل اليمنيين.
مأساتنا ليست وليدة لحظة انتقالية، وإنما علينا النظر في باعثها الأول المتمثل بغياب وتغيب للوطن الجامع لكل أبنائه كما وسببها الأوحد هوية مازال الانتساب لها جريرة في الجنوب وجريمة في الشمال.
ظننا زمنا أن الحل لمشكلات السياسة والاقتصاد والإدارة سيكون بعيدا عن الوطنية وبمعزل عن اليمننة كهوية مشتركة جامعة لكل اليمنيين ودونما فروقات أو تمايزات مناطقية أو جهوية أو طائفية أو مذهبية أو قبلية.
ربما غفلنا هنا أن الأوطان لا تستقيم وتنهض وتستقر من دون وجود هوية واحدة متجسدة في واقع الممارسة وفي كافة الأحوال والأوقات، ومن دون أن تكون المواطنة المتساوية مقدمة على كل الولاءات والانتماءات الضيقة.
فحين سادت ولاءاتنا وانتماءاتنا الضيقة كنا هنا كمن يوصل لأوطان متعددة متناثرة تقطنها مجتمعات كاثرة ممزقة متناحرة.. نعم ما نشاهده الآن من أزمات ومشكلات ليست إلا نتيجة لفشل الأجيال المتعاقبة عن إقامة الدولة الحديثة القائم عمادها على المواطنة المتساوية المجسدة لمبدأ العدالة بين اليمنيين وعلى اختلاف مشاربهم ومذاهبهم السياسية والفكرية والدينية وعلى تعددية انتماءاتهم وخصوصياتهم الديموغرافية والثقافية والمذهبية والاثنية ووالخ.
إننا في هذه الحالة كمن فرط بما لديه من تطلعات وآمال ومبادئ وكذا بما هو متوافر له من مكاسبه بسيطة تؤسس لحياة مستقرة وأفضل نظير ظفره بأوطان شتى وأدنى لا تتساوق مطلقا مع مبتغى الوطن الكبير الناهض المستقر الذي يتشرف به جميع اليمنيين ويفاخرون ويعتزون به كموطن جدير بالانتساب إليه.
مأساة أن يقتتل اليمنيون وبهذه الكثافة، ومأساة أن تستولي مليشيات دينية ومذهبية على محافظة لصيقة بعاصمة البلاد.. ومأساة أن تكون بلادنا رهنا لصراعات وأزمات لا تستقيم أبدا مع حاجة مجتمعنا للتنمية والأمان والعدالة والحياة الكريمة؛ بل وللكهرباء والدواء والخبز وسواها من ضروريات العيش في كنف العصر عالم الألفية الثالثة المتهافتة حكوماته لتحقيق الرفاهية الكاملة لمجتمعاتها.
كل شيء من حولنا تبدل أو أنه في طريقه للزوال، فحتى رعاة الإبل والضأن والبقر بات تفكيرهم ومنطقهم منهمكا في التجديد والابتكار والتسويق والإنتاج الذي يتماهى مع زمن عولمي كهذا الذي مازلنا عالة عليه وخارج سياقه ودونما قدرة على فهمه ومعرفته؛ فكيف بمجاراته واللحاق بركبه السريع؟.
مؤسف جدا أن ما ينطبق على اليمنيين ووطنهم الواحد الذي لم يرتق بعد لمصاف الموطن المجسد للمواطنة يمكن إسقاطه على أوطان عربية أخرى ما فتأت الآن خائضة لمعركة الطائفة والمذهب والعرق والجغرافية وقليل منها أيديولوجية.
أيا يكن الأمر محبطا ومؤلما ومكلفا أيضا فإن ما يجري اليوم في العراق أو سوريا أو ليبيا أو مصر أو اليمن أو سواها من بلاد العرب أعده نتيجة لفقدان الهوية السياسية المعبرة عن المجتمعات العربية.
فكل ما أمامنا ليس إلا نتاج إخفاق تاريخي ومجتمعي كان من تجلياته هذه الحالة المشاهدة في أكثر من قطر، وحتما لن يجدي معها الالتفاف أو القفز أو التأجيل لها مثلما سبق وحصل في عهد ما بعد التحرر والاستقلال من الاستعمار والأنظمة الملكية؛ بل يتوجب بمواجهتها كتحديات ماثلة وحتمية يستلزمها دولة عادلة جامعة في طياتها لكل مكوناتها الإنسانية ولتفاعلاتها وخلافاتها الفكرية والدينية والأيديولوجية والإثنية, فجميع هذه التفاعلات تعد مسألة حيوية لازمة لنهضة واستقرار وتطور أي مجتمع وأي دولة.
السؤال الأكثر إلحاحا هو: هل بمقدور اليمنيين تحقيق هذه الدولة الحديثة المجسدة لقيم ومبادئ المواطنة المتساوية؟ وإذا كنا على مشارف مرحلة جديدة مغايرة من حيث أن الدولة هنا غابت أو قولوا لم تتشكل ملامحها وفقا والصورة النموذجية المفترض تمثلها خلال نصف قرن أو يزيد على إعلانها كجمهورية معبرة عن الشعب وكنظام بديل مغاير حمل عاتقه مهمة إنهاء التمايز الطبقي السلالي؛ فهل ما ينطبق على هذه البلاد يمكن إسقاطه على ما يحدث اليوم وغداً في أقطار عربية عرفت الدولة القمعية الاستبدادية دونما تعثر مجتمعاتها على دولة المواطنة المتساوية؟.
ختاما.. تعددت الأزمات والفرقاء والشعارات وحتى الوسيلة والطريقة التي يسلكها كل طرف فيما المعضلة واحدة ومكررة مزمنة، فلا فرق بين حالة في العراق أو سوريا أو اليمن، بين معركة مخاضة باسم الأكثرية الطائفية المغيبة حقبة وبين معركة مزهقة لشعب رغبة في بقاء الأقلية الطائفية الحاكمة.
بين بلد لم يرتق يوما لسمو الوطن المجسد لقيم الدولة العصرية وبين بلد لم يعثر مجتمعه على وطنه ومواطنته، بين نظام عائلي سلالي عبثي مهدر لثروة شعبه وقبلها كرامته وحريته بتكليف من رب السماء وبين نظام عائلي استبدادي فاسد ادعي زيفا وتضليلا بكونه يمثل إرادة الشعب كما وسلطته القمعية العبثية ليست سوى تكليفا لا تشريفا.
محمد علي محسن
مواطن يمني لا أكثر!! 1614