لحسن حظي لم أتابع كثيراً تعليقات وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية على حادثة إعدام وذبح الجنود 14 الأسبوع الماضي في منطقة (حوطة شبام)بوادي حضرموت من قبل مجاميع إرهابية تنتمي إلى تنظيم القاعدة, لكن ما علق في ذهني من تفاصيل ابتداءً من واقعة اختطاف هؤلاء الجنود وحتى ذبحهم بوحشية وبشاعة يندى لهولها وفظاعاتها جبين الإنسانية هو أن هذا العدد الكبير من الجنود الذاهبين لقضاء عطلة اعتيادية مع ذويهم قد خرجوا من معسكرهم بزيهم المدني ليستقلوا حافلة أجرة مع ركاب آخرين رغم إدراكهم وادراك قادتهم بمخاطر هذه المجازفة خصوصاً في ظل الوضع المضطرب الذي يسود المنطقة وترصد عناصر تنظيم القاعدة لأي من أفراد الجيش والأمن .
وربما لا استطيع أن أتصور الآن موقف قيادات أولئك الجنود الضحايا الذين استكثرت عليهم توصيلهم بمركبات الجيش إلى منطقة آمنة ..ولا ادري أيضاً إنْ كانت هذه القيادات العسكرية تشعر اليوم بأي قدر من وخز الضمير وهي من تسببت في تعريض ذلك العدد من الجنود للتصفية الجماعية بعد أن وصل إليهم الإرهابيون في الطريق وانزلوهم واحداً تلو الآخر بعد التعرف عليهم من خلال البطاقات الشخصية في مشهد مهين لا يقل عنه فظاعة سوى ما ظهر في مقطع مصور لهؤلاء الجنود وهم يذبحون, فيما كان كل واحد منهم ممسكاً بكتف الآخر ومنتظراً جزّ رقبته وسط جمع من المتجمهرين سيطر عليهم الوجوم والهلع والخوف وهم يتابعون مشاهد مجزرة بشرية تعد الأبشع على وجه الأرض .
لم اكن أتمنى تحت أي ظرف أن تؤدي تداعيات هذه المذبحة المؤلمة إلى استنفار الحمية القبلية والتي بدت صارخة في ما صدر عن وجهاء ومشايخ عمران وحجة اللتين ينتمي إليهما الجنود الضحايا من مطالبات لإخوانهم مشايخ ووجهاء حضرموت بتحديد موقفهم من تلك الجريمة التي حدثت على أرضهم, لقناعتي أن الدولة هي المعنية أولاً بالثأر لدم أولئك الجنود باعتبارهم جنوداً في جيش الدولة ومواطنين من أبناء هذه الدولة وقد عبرت عن هذه القناعة صراحة أثناء حديثي مع احد مشايخ عمران والذي وجدته مغتاظاً اكثر من الطريقة التي تعاملت بها الجهات الرسمية مع ذلك الحادث الإجرامي بصورة تفوق ربما غيظه ممن ارتكبوا الجريمة .
ومن دون أي ترتيب فقد ظهر الرجل اكثر حماسة وهو يقول: لقد كان تعامل الجهات الرسمية مع حادثة ذبح الجنود مستفزاً وصادماً للكثير من الناس وبالذات اسر الضحايا الذين انقسموا بين متعجب ومندهش لاحتشاد كبار مسؤولي الدولة وقادة الجيش والأمن في تشييع جنازة محافظ محافظة المهرة بعد اكثر من 12 ساعة من حادثة قتل الجنود ومع ذلك فلم نرَ مسؤولاً من هؤلاء يخرج ليلقي خطابا تأبينياً لأولئك الجنود الأمر الذي شعر معه أهالي الضحايا أن حياة وموت أبنائهم لا يعني الدولة بشيء .
وبحرقة شديدة فقد تساءل ذلك الشيخ: ألم يكن من المستفز لنا ولكم أن لا يخرج وزير الدفاع أو رئيس الجمهورية بعد ساعات من تلك الحادثة البشعة التي اهتز لها اليمن بأكمله ليواسي اسر أربعة عشرة جندياً ذبحوا غلة وغدرا على أيدي عناصر إجرامية ولم يموتوا في حادثة انقلاب سيارة أو جرفتهم السيول أو سقط فوق رؤوسهم سقف المعسكر سيما وان الإعلام الرسمي قد تجاهل هو الآخر أي حديث عن تلك المذبحة حتى مساء اليوم التالي وبعد أن كانت جميع وسائل الإعلام العربية والدولية قد تناقلت تفاصيل ذلك الخبر المؤسف بكل تفاصيله .
قد يكون مثل هذا الكلام جارحاً أو قاسياً في نظر البعض لكنه الذي يكشف عن حقائق ظلت غائبة أو مغيبة عن حسابات صناع القرار لعل أهمها: أن الجيش الذي نريده اليوم أن يحمي اليمن من خطر القاعدة وتغول عناصر الإرهاب وفوضى الخارجين على النظام والقانون هو الجيش الذي سبق وان أخضعناه للمحاصصة المناطقية وتقاسم المناصب القيادية فيه على أساس شمال وجنوب وهو من قمنا بإعادة هيكلته وفق آلية تلبي شروط الخارج اكثر من متطلبات الداخل وهو الجيش الذي عملنا على تفكيكه إلى مناطق وجزر متقاطعة بهدف تبديد الولاءات التي نسجت داخله وهو الجيش الذي جعلنا منه طرفا في معادلة الولاء للشخوص الزائلة ونقطة عبور لإضعاف هذه الجهة أو تلك.
وتبعا لتلك العوامل فقد انهارت هيبة هذا الجيش واهتزت صورة كل جندي فيه على المستويين الرسمي والشعبي بمجرد أن تم الزج بالمؤسسة العسكرية في حسابات السياسة المقيتة ومقايضات قوى النفوذ التي حاولت أن تجعل من الجيش مطية للاستقواء وهو ما انعكس سلبيا على تماسك هذا الجيش ومدى انضباط أفراده إلى درجة وجدنا فيها خلال العامين الماضيين جنودا ينتفضون على قياداتهم, إما بدافع عدم كفاءتها أو بفعل استيلاءها على حقوق الجنود ليتراجع ولاء الجندي لمؤسسته العسكرية خصوصا هو يرى نفسه وقد تحول إلى شخص لا معنى له؛ إن عاش عاش مكدوداً وان استشهد أو مات لا يسأل عنه احد, شأنه في ذلك شان غالبية الجنود الذين يموتون يومياً في حوادث مؤسفة.
وحتى لانتهم بالمبالغة أو بالتجني من قبل بعض المزايدين نسأل: أين هم قتلة مائة جندي وضابط في ميدان السبعين؟ وأين هم قتلة الجنود والضباط والأطباء في مجمع العرضي؟ وأين هم قتلة الجنود في المكلا وسيئون وأبين ولحج وعمران والبيضاء وغيرها من المناطق والمحافظات؟.. لا احد يريد أن يسأل ولا احد يريد أن يعرف الإجابة القاصمة للظهر والعقل, فالحقيقة الصادمة أن دم الجندي اليمني لم يصبح رخيصاً إلا حينما رخص هذا الدم في نظر الدولة.
سمعنا مراراً وتكراراً أن الإرهاب لا دين له ولا لون ولا جنسية وذلك صحيح لكن لا يمكن لهذا الإرهاب أن يصبح كالطاووس المنتفش ريشه كأن يغتال في صنعاء عبر دراجات ناريه ويقتل في لحج بعبوات ناسفة ويقطف الرؤوس ويسيل الدماء ويذبح الجنود في حوطة شبام بوادي حضرموت ويهاجم في المكلا المواقع العسكرية والنقاط الأمنية ويسرق البنوك في وضح النهار في عدة مناطق لو لم تكن هناك حواضن آمنة وأياد خفية تساند عناصره وتعمل على حمايتها .
ما حصل في سيئون الأسبوع الفائت وحصل بعده في لحج وحدث امس الأول الخميس في المكلا هو صفعة كبيرة ومؤلمة للمؤسسة العسكرية والأمنية وامر محزن لكل مواطن يمني شريف يحب بلده وجيشه ويتمنى لهما الرفعة والنصر لكن مع ذلك فقد آن الأوان للجيش أن يراجع استراتيجيته بصورة علمية وواقعية خصوصا بعد أن تغيرت ملامح الصراع مع تنظيم القاعدة و اتخذ هذا الصراع منحا جديدا تبدى في توحش هذا التنظيم الذي اتجه إلى محاكاة أساليب داعش في العراق وسوريا اذا انه وبعد كل كارثة لابد من وقفة تتم من خلالها محاولة فهم ما حدث واستخلاص الدروس والعبر, آملاً في تفادي وقوعها مستقبلاً أو التقليل من أثارها السلبية بقدر المستطاع.
علينا أن نعيد الاعتبار أولاً للجيش وجنوده فالدول التي حرصت على أن يكون لها نصب تذكاري للجندي المجهول, إنما أرادت بذلك أن تكرس الاحترام لكل جندي في جيشها لإيمانها بان هذا الجندي هو من يمثل هيبة الدولة والتي اذا ما سقطت؛ سقطت الدولة ومن هذا المنطلق حين يقتل الوطن فلن ننتظر أن نصطف في طوابير عزائه أو نرقص على جراحاته النازفة لأننا عند ذلك سنكون جميعاً في حضائر الموت المخزية على يد القادمين من كهوف التاريخ الذين يسعون إلى اغتصاب دين الله السمح واستبداله بدين القتل والذبح والرعب والفساد.
وبداهة: فلا توجد منطقة محايدة بين الموت والحياة وبين الدمار والإعمار وبين القتل والأحياء وبين النور والظلام وبين الخوف والأمن .
علي ناجي الرعوي
أبهذا الوضع سننتصر على القاعدة؟! 1947