لا مؤامرة ولا يحزنون؛ فكل ما هو حاصل الآن وفي أكثر من بلد عربي ليس إلَّا استحقاقاً سياسيا كان المفترض حدوثة في حينه وتحديدا مع ثورات وانتفاضات وقعت في آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.
فتأخر هذه الاستحقاقات السياسية المتسقة مع العصر ومعطياته وقيمه وأدواته ومفاهيمه بلا شك كان من تجلياته هذا المشهد المأساوي الكارثي السائد في عموم المنطقة.
شخصيا أعد ثورات الشباب أفضل منجز يحقق للأمة العربية التي لم تعرف في تاريخها حدثا بهذا المستوى والشمولية، ومع أنها الحدث الأكبر والأبرز والوحيد الدال على حيوية مجتمعاتنا وعلى وجودها الحضاري الإنساني التاريخي فلا يبدو- من سياق النتائج والتبعات السلبية الحاصلة الآن في الجمهوريات الثائرة على حكامها المستبدين الفاسدين- ما يشيء ويؤكد بأن العهد الثوري الجديد قد تكوّن وتشكل أو أنه الآن في طور متقدم يتقاطع كليا أو جزئيا مع حقبة الأنظمة العائلية.
فيقينا أن ثورات كهذه لهي مدعاة للدهشة والإعجاب والإلهام، فلأول مرة- ومنذ عقود، بل قولوا قرون- يحرز المواطن العربي نتيجة إيجابية مشرفة جعلته محط احترام وتقدير المجتمعات الإنسانية الحرة الثائرة السباقة في مضمار كفاحها الطويل والشاق لأجل قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة.
فالحال أننا إزاء إرث مثقل بالمشكلات والأزمات السياسية والمجتمعية والدينية والفكرية والثقافية والبنيوية التي لطالما تأجلت وترحلت ومن عقود وقرون دونما حل أو معالجة حقيقية وجذرية ولو لليسير والطارئ منها.
فكثيرا وغالبا ما اعتمدت الأنظمة السالفة أسلوب القمع والقتل والتنكيل والترويع والإقصاء والتهميش وسواها من أدوات الأنظمة البوليسية.
النتيجة بالطبع ما تراه في الحاضر من تعدد في الجبهات المناوئة وفي الفصائل المحاربة وفي الشعارات والمسميات المختلفة التي ما فتأت تلقي بظلها على مجمل العملية السياسية المفترض بها أن تكون خالصة للعهد الجديد المنبثق عن ثورات ما سمي مجازاً بالربيع العربي.
فما "داعش" وجبهة النصرة، وأنصار الشريعة، والقاعدة إلا لوثة فكرية وذهنية نشأت في عقولنا وفي حياتنا وتحت سمعنا وأبصارنا وبدعم ورعاية أنظمتنا القمعية الفاسدة.
فالثورات هنا ليست سوى كمن يزيل الرماد عن جمر خامدة غاشية.. فهذه الطائفة تطل برأسها، وتلكم القبيلة تكشر عن أنيابها، وذاك المذهب، وتلك الجهة والمنطقة، وهنالك أنظمة قديمة مازالت ماثلة بقوتها وجبروتها ورجالها وهنالك أنظمة مازالت حائرة مرتبكة ما بين انتمائها للماضي أو الحاضر.
لنأخذ اليمن نموذجا لبلدان الربيع، فلدينا أنصار شريعة وتنظيم قاعدة في الجنوب، كما لدينا حوثية وسلفية وهابية في الشمال، زد لذلك لدينا فصائل حراك في الجنوب، يقابلها فصائل ثورية في الشمال.
نظام سابق مازال شريكا مؤثرا وفاعلا في مجمل العملية السياسية بدءا بمناصفته في الحكومة، مرورا بتمثيله في مؤتمر الحوار وحتى غالبيته في البرلمان والشورى، هذا- إذا لم نقل بتواجده الكثيف بدءا من رأس السلطة وانتهاء بعاقل الحارة-.
كأن إسقاط أربعة حكام طغاة ومستبدين وفي سنة واحدة ليس إلَّا مؤامرة خارجية أميركية صهيونية هدفها تفتيت وتمزيق شعوب المنطقة وعلى هذه الشاكلة المؤلمة المشاهدة اليوم وفي أكثر من بلد عربي.
نعم لكأن المشكلات والأزمات الراهنة ليست سوى نتيجة لهذه الثورات الشبابية الشعبية! ولكأن حالنا قبل هذه الثورات كان مختلفا نقيضا يستوجب منا عظ أصابع الندم! لكأن أوطاننا خالية تماما من أية انقسامات مجتمعية دينية وطائفية وجهوية وقبلية!.
الصحيح هو أن معظم مشكلاتنا وأزماتنا كانت قائمة وموجودة قبل احتلال أميركا للعراق أو حصار إسرائيل لغزة، قبل بروز مفهوم الشرق الأوسط الجديد في زمن الرئيس الأميركي الأرعن جورج دبليو بوش أو في عهد خلفه الرئيس باراك أوباما، قبل هزيمة حرب الأيام الستة في يونيو 67م أو بعدها، في ظل وجود الزعماء صدام ومعمر وحسني وصالح وبن علي وبشار أو بعيد سقوطهم إثر موجات الأحداث المتتالية العاصفة بكل أرجاء المنطقة.
والصحيح – أيضا – أن المنطقة كلها واقعة تحت تأثير ماضيها المحرك لمجمل حاضرها.. الحل من وجهة نظري كامن في قدرة مجتمعاتنا على إحداث التغيير الذي يلبي طموحها المنشود، هذا الحل محوره الأساس الدولة الديمقراطية العادلة الجامعة لكل مكوناتها وفئاتها المجتمعية، غايته المواطنة المتساوية الخالية من كافة أشكال التمايز المقيت الطبقي والطائفي والمذهبي والجهوي والقبلي.
ختاما.. تعددت المسميات وبقيت الصورة واحدة كاشفة لقبح لطالما ظل مخفيا ومتواريا عن الأنظار والحلول.. واقع مأساوي وكارثي؛ لكنه- بكل تأكيد- يجلي حقيقة الاستبداد السياسي الذي رزحت لوطأته شعوبنا قرونا من التاريخ.
وعلى ذلك فإن ثورات الشباب تمثل فاتحة للخلاص من الهيمنة المستبدة الممانعة لكافة أشكال الحداثة والتطور الإنساني والتاريخي، فكل ما هو قائم الآن وعلى سوأته وكارثيته ليس إلا تعبيرا واقعيا لصورتنا المنسية المهملة المكبوتة في أعماقنا وذهننا وتفكيرنا حقبا زمنية.
ما يجري الآن وربما غدا أعده ثمنا للحرية والديمقراطية والحداثة، فمعظم أوطاننا بقيت أشبه بسجون كبيرة لمجتمعاتها، فلم تكن ثورات الشباب إلا كمن يفتح ورما سرطانيا غائرا مزمنا سرعان ما لقي استجابة كيما ينتشر في كامل الجسد المنهك المريض بفعل الإهمال الطويل أو نتيجة اعتماده على المسكنات للألم ودونما محاولة تذكر لمعالجة أو استئصال لشأفة دائه العضال.
محمد علي محسن
لا مؤامرة ولا يحزنون!! 1604