يحدث ذلك حين يعيش الناس ضمن مجتمعات متحضرة وقادرة على التفريق بين مصالحها العامة والخاصة, بالإضافة إلى قدرتها على البناء في محيطها الاجتماعي حين تعجز الدولة عن تشييد ذلك الجسر الذي يربط بينها وبين مجتمعاتها. هنا تصبح كل فكرة شعلة, وكل قيد وتداً, وكل ومضة شعاعاً..
تتعدد الوسائل ويلقي الجميع برؤاه على أرض الواقع وكأنها أرضه التي يستصلحها لغرس أفضل بذر لأجود ثمر. الوسائل التي تتحدث عنها لبناء المجتمعات المتحضرة ليست بتلك المحتكرة في أيدي أصحاب القرار السياسي والاجتماعي, وإنما هي وسائل متاحة ومتوفرة وربما كانت أزلية دون أن يلقي لها أغلب الناس بالاً. وسائل ملموسة وأخرى محسوسة. وما أغزر السيل إن هطل المطر!..
وجود الإنسان على هذه البسيطة محكوم بثورة الفكر والروح التي يمتلكها, فأي قدرة يمكن أن توازي قدرة الإنسان ذي الفكر السليم والروح الخالية من أمراض الشر والرذيلة؟!. للإنسان قدرات خارقة وعملاقة إذا امتلك الوسائل التي تخوله للإنتاج والبناء وصنع الحضارة بيديه, لكن المهم أن يكون على وعي كامل بأنه يملك تلك الوسائل والأدوات, بل ومن المهم أن يدرك أيضاً أنه يستطيع استخدامها والحفاظ على ديمومتها حتى لا يتوقف إنتاجه الحضاري. وحين يعجز هذا الإنسان عن استيعاب حق الملكية يبدأ بالبحث عن البدائل, تلك البدائل التي قد لا تناسب احتياجاته, ولا تتلاءم مع قدراته, ولا توازي تطلعاته.. بدائل مفروضة وربما مرفوضة, لكنه يكون مضطراً للقبول بها رغماً عنه تحت الضغط أو الميل إلى التشويش والتشويه!.
القبول مثلاً بثقافة مجتمعات مغايرة, تفعيل فلسفة الاستهلاك, تعطيل الفكر المحلي.. كل هذه بدائل عن وسائل كثيرة كان بالإمكان أن تحول مسار مجتمعاتنا العربية الراكدة والغارقة في وحل السياسة إلى مجتمعات مثمرة وذات قدرات خلاقة.
لقد سقطت مجتمعاتنا العربية في سلة البدائل المهملة التي لا تمثل إلا قشوراً سطحية لمجتمعات تتعمق في استثمار وسائلها يوماً بعد يوم, في الوقت الذي نبحث فيه نحن على بدائل منصفة لا يمكن أن تكون حلاً لجميع مشاكلنا الحضارية.
لهذا يبرع العرب في غرس القيم الفلسفية المختلفة عن عالم الواقع, بينما تكرس المجتمعات الغربية كل طاقاتها لتحويل كل حلم إلى حقيقة, وكل مفردة إلى فكرة وكل فكرة إلى إنجاز وكل إنجاز إلى أسطورة..
نبحث دائماً عن تكريس التبرير, بينما يبرع غيرنا في تعزيز التطوير.. وهكذا, فنحن مجتمعات شغلها الله بنفسها بعد أن انشغلت عن الهدف الأساسي من وجودها, فلم تعد عبادة الله وعمارة الأرض هي وسائلنا لإثبات وجودنا, بل أصبحت أسس التأويل بدائل لإظهار إخفاقاتنا..