أعترف وأقر أنني أحببت مجنونة.. هل قدر لأحدكم الاقتران بفاتنة خفيفة عقل؟ أنا الوحيد الذي أهدر من عمره زمناً ليكتشف في النهاية وهمه المبدد على قارعة المحبوبة الساحرة الآخذة لألباب العشاق المتيمين بها.
قيل بأن الحب أعمى، والحق إن الحب جنون جامح لا تدري أين مبتدأه أو منتهاه؟ فقبل أن يؤوب عقلي من إجازة طويلة كنت قد اقتفيت قلبي الولع الشبق المتيم بعشق حسناء لا وجود لها سوى في قصص الخيال وفي أساطير الخرافة.
نعم تبعت فؤادي إلى دار الحبيب..
قصة هذه المحبوبة تشبه قصة أي حاكم عربي ولع بسلطانه ولحد الهوس المجنون، فبرغم يقيني أن الحب الذي مستهله نظرة شزرة ماكرة أو ابتسامة جذلة مصطنعة أو كلمة مخاتلة خادعة سيكون منتهاه مأساة سريعة؛ لكنني ومع ذلك ذهبت خلف كذبة الحب من أول نظرة نافذة للأعماق.. أول كلمة عذبة ساحرة.. أول لقاء مصادفة بلا موعد.
نعم.. أحببت ولكن برجلي ومنذ أول خطوة دلفت بها إلى ذاك الدار العتيق المهاب المسيج بجدران كئيبة رثة, صارخة بالوحشة والأنين والخوف، إذاك لم أكترث ما إذا كنت بالفعل أقتفي قلبي الهائم المترع محبة بحسناء الدار أم خلف سراب وبقدمي وكيان آدمي فاقد الروح والإحساس؟
فمثلما قلت لكم بشغفي لهذه الكائنة المخلوقة من جنون عشاقها، تبعتها ذات نهار قائض وبجسد نزف عرقه ونشف ريقه بحثا عن دار المحبوبة الغنجة خفيفة العقل.. أذهلتني، أعجبتني، أخافتني، أدهشتني، أسرّتني، فكل ما فيها مثار دهشة وإعجاب.. تشبه لؤلؤة زاهية نضرة في حجرة صدفة رثة.
هي كذلك حين تشاهدها.. عيون سابلة, فرحة, جذلة, أنيقة وسط مدينة حزينة كئيبة مسكونة بهياكل أشباح ودم معفور وأموات وأنين, أبدان هزيلة مذعورة نصف ميتة, متشبثة ببقايا خفق على حواف مقبرة فاغرة رموسها.
جميلة، جذابة، عذبة، آسرة، لكنها حمقة.. رعنة.. مفتونة بنفسها ولدرجة تجعلها تقتل محبيها واحداً بعد الآخر ودون يرفل لها جفن ندامة أو يساورها ضمير.
لا أعلم كيف لكائنات بشرية في ريق ألقها وفتوتها عشق كائن عجيب وغريب وهرما فوق ذلك فاقد لحاسة الشم والبصر والذوق واللمس وحتى السمع الذي يبقي يقظاً إلى آخر نفس في الإنسان.
يوم تمحوها أيام، وأعوام تنحت أخاديدها في بدني، وتجاعيد غظنه توشم ناصية وحواف سديم محياي، فيما صاحبكم العاشق الولهان في انتظار عروسته الجميلة وهي خارجة من دارها كل صباح فيمضي وراءها ككلب طائع جائع لاهث عن عظمة يلهي بها صيحات معدته القارصة أو بقايا سمكة نافقة تتفضل بها سيدته عليه.
كنت أعلم أنني لست مغفلاً كما ولست غبياً أبلها كيما انفق سنين عنفواني بحثا عن كائن هلامي فقاعي يتمدد ويتضخم أحيانا حتى تظنه فضاء فسيحا حاجبا لنور الحقيقة المطلقة.
وتارة يتكور ويتقزَّم حتى تراه فأرا شاردا أو عنكبوتا جباناً في مخبئه.. حرباء فزعة مبدلة جلدها إلى ألف لون في لحظة واحدة، سوداء، صفراء، فاقعة، رمادية، غامقة، وخلطة ألوان شبيهة بزي فرق الكوماندوز.
كما وكنت أعلم بقصة أصدقائي المحبين الذين ولعوا بها وهاموا فكان جزاؤهم يماثل عقاب سنمار، فما من هؤلاء الذين غوتهم محبوبتهم الفاتنة إلا ونال نصيبه من هذه المخلوقة الغريبة التي قيل بأنها هجين من دمامة وغطرسة إبليس وجمال وتواضع ملاك، فما من أحد دلف دارها إلا وفقد عقله أو روحه أو كرامته.
واحدة خفيفة عقل وزادت لخفة عقلها نرجسة وسادية وهكذا دواليك من العُقد النفسية، خفة عقل زائد أمراض دفينة جعلتها لا تكترث بشيء غير ذاتها المريضة المفتونة المهووسة المذعورة.
ذات يوم- وبينما أحشائي تتمزق وجعاً وجسدي يتفصد عرقاً من شدة الإعياء- لم تعر صرخاتي وتوسلاتي أي أهمية إذ بقيت في غرفتها وأمام المرآة وعلى سريرها غير عابئة بأنيني الفاطر لصخر الجدار.. كأن صرخات وجعي موسيقى راب اعتادت سماعها أثناء تأنقها بمساحيق كوافيرها اليومية المعتادة.
في مرة تالية رافقتها إلى مأتم صديق قتلته دون أن تدري أنها من انتزع فؤاده ورماه للقطط، وفور وصولها أخذت تطلق ضحكات مستفزة وقحة لمن يعتلج صدره الحزن، بل وأكثر من ذلك إذ مدت يدها لحقيبتها وأخرجت كاميرا تصوير رقمية طالبة من معزية متشحة بالحزن والنشيج لأن تلتقط لها صورة بثوبها الأبيض العرائسي وتسريحتها ووسط مأتم طاغ سواده.
راحت المسكينة الكظيمة تلتقط لها صوراً وفي مواضع عدة ولأماكن مثيرة في جسدها ودونما كلل أو دراية ربما بأنها- وخلال دقائق- قد أحالت المأتم إلى ملهى ليلي راقص.
أنانية.. بخيلة.. جشعة.. فظة.. دميمة.. جاحدة.. ومع كل صفاتها هذه قدر لها سحر الكثير من عشاقها المتيمين. . عشاق كُثر أغراهم ثوبها الأنيق، وفتنهم ظاهر وجهها البادي للعيان، المخفي قبحه بمساحيق بيضاء وحمراء وزرقاء وأرجوانية وسوداء، وأغواهم عزفها الغنج وموال صوتها وجاذبية رقصها ووووالخ.
أشياء آسرة لأفئدة الملايين الغاوين، الهائمين، التائهين، المخدوعين، العاشقين، الراقصين المغازلين، المحبين، اللاهثين، الحائرين، المنتظرين إطلالة محبوبتهم كل صباح فيما هي مفتونة بوجهها وردائها.. ولوعة متيمة بالمال وبمراقصة أصحابه ومعاشرتهم ليلا ونهارا.. على استعداد دائب لمداعبة الكذب ودفن الصدق في مراب دارها، ومثلما هو فعلها مع الصدق بمقدورها خنق محب صادق وقتله والتعزير به دونما يراودها شعور بذنب أو إثم.
محمد علي محسن
واحدة خفيفة عقل!! 1691