تسبق مشيئة الله إرادة البشر، وتتجاوز قدرته كل رغباتهم، وبين عشية وضحاها تتبدل أحوال وتتغير أقوال، يحدث الغنى والفقر، الصحة والمرض، الحب والكره، الموت والحياة.. يحدث كل هذا بينما نسير على طريق الأمل في غد أفضل وفرص أوفر وإنجازات أكبر.. لا نشعر بالخطر الذي يحدق بنا إلا حين نقع فيه ونتذوق مرارته ونواجه تفاصيله بصلابة أو استسلام، المهم أننا نخوض تلك الأحداث التي قد نخرج منها بسلام أو تخرجنا من الدنيا وما فيها إلى دارة الأخرة إلى غير رجعة.
"خلق الإنسان في كبد".. هذه قاعدة إنسانية، اجتماعية، اقتصادية ثابتة، فالحياة الدنيا هي أدنى درجات الحياة البشرية لكنها تتطور حين يترفع الإنسان عن شهواتها وملذاتها مرتقياً بنفسه إلى درجة الروحانية التي يكون فيها الخليل هو الله، وكل مرحلة يمر بها الإنسان بعدها تعتبر درجة ارتقاء قاصدة إلى ما هو أعظم منها وأكبر، فالموت للطائعين لربهم درجة ارتقاء، وقبلهُ الفقر والمرض وأصناف الابتلاء.. وكلها بين الكاف القدرية والنون القضائية. فنحن بين كفتي القضاء والقدر، لكن تشبث الفطرة الإنسانية بالحياة يجعلها تستنفر كل طاقتها للبقاء مع يقينها أنها لن تستطيع ذلك؛ فلكل أجل كتاب.
قدراتنا محدودة بعكس أحلامنا التي تتضخم يوماً بعد يوم رغماً عنا لأسباب ندركها وأخرى لا ندركها، فالتأثر بالبيئة المحيطة والقدرة على قراءة الواقع وخوض التجارب الناجحة لتحقيق التطور وتذوق ثمارها، كل هذا يجعلنا نجازف بالتصور، ونخاطر بالتوقع، فيما قد يكون القدر بالمرصاد وفي اللحظة التي لم يفلح التصور والتوقع والتخطيط لاستبيانها وإدراكها والاستعداد لها.
نسرف كثيراً في تحميل واقعنا بما فيه من شر وضيم وخصومة على ظهورنا التي انحنت كادحة في سبيل أنفسنا وليس في سبيل الرسالة التي خلقنا من أجلها، ونقتّر عليها كثيراً في كل ما من شأنه أن يرفعها إلى مقامها الصحيح وصرحها الفسيح من الخير والصلاح.
لهذا تتثاقل عزائمنا وتخور قوانا ويمر على أعمارنا القدر لتسقط أوراقنا في غمضة عين قبل حتى أن نصل إلى ذلك الهرم الضخم من الأهداف المؤجلة.
الحياة أبسط من كل هذا التعقيد، فكثيرون جمعوا أموالاً وبنوا قصوراً وتركوا ذرية، لكنهم لم يجدوا السعادة إلا في يد ممتدة ولسان يلهج بالذكر، ونفس لا ترتقي إلا بمناجاة الرحمن.
أقدارنا أقرب إلينا من أنفسنا التي تسكن أجسادنا, فلماذا نترك الغالب في طلب الغائب؟, ولماذا نهجر الصدور" مجالس العلم" إلى أفنية القصور؟.. الأمر بين الكاف والنون؛ فهل يستحق أن يضيع العمر عنه إلى سراب؟..
ألطاف الأهدل
بين الكاف والنون 1397