كثيراً بحثتُ عن وجهٍ تشبهُ ملامحه شيئاً من ملامحي ومدينة ملونة بالشوق كمدينتي وأمسيات يشبهن بُحمرة وجناتهن وجنة الشفق..
كثيراً ما مررت على الطرقات لا أملك إلا هذا الإصبع من مداد الروح وصدر مسكون بسلّة مشاعر دامية, وجمجمة تعلو جسدي كفنارٍ يوشك أن يغرق في طوفان تطلقه نافورة روحي بعد احتفال حزين بالألم.
بحثت عن قوقعة تخفي تضاريسي, وساحلٍ من الرمل المعتق بعطر البحر يضمخ قاع قدماي فأبدو كقارورة المسك.. بحثت بين الأزقة عن الأمس البهيج وحكايا أمي الغائبة بين صفحات الأيام, بحثت عن كوخ من القش يحمله زورق من أعواد القصب تحمله جداول النيل والفرات إلى ضفافٍ خضراء لا نهاية لها..
لكنني كنت أعود كما أتيت في كل مرة أبحث فيها عن شيء يشبهني أو مكان يحتويني أو ذاكرة تمنحني عنواني وهويتي. وماذا يمكن أن يملاً فراغ قلبي بعد أن فقدت الإحساس بالوطن وتعرّت كل مشاعري من دفئه؟!.
في الوطن يعيش المرء ملكاً متوجاً بالكرامة حتى لو لم يستر جسده إلا أطمار بالية, يسير حراً بلا أوراق هوية ولا جواز سفر, فالكل أهله وكل منازل المدينة منازله.. في الوطن يوجد ألف سبب لتبتسم حتى وإن وجدت ألف سبب آخر لتمارس الحزن كعادة أو سلوك.
وفي الوطن يكفي أن ترى مقاهي المدينة وتتنشق نكهة القهوة لتتنبه كل خلايا الذاكرة دون أن تكون مضطراً لاحتساء فنجان منها, وفي الوطن لن تشعر بالجوع ونساء المنازل يقفن خلف تنور الخبز ليل نهار في انتظار فقير أو عابر سبيل.. في الوطن أنت موجود سواءً كنت غنياً أو فقيراً, أنت ثري بنسبك وعلاقاتك بكل من حولك, غني بمعتقداتك وجذورك وتراثك وثقافتك, أنت صاحب الدار ورب البيت, أنت ابن البلد ووالد الولد..
في الوطن أنت أقرب الناس ولو كنت أكثرهم بعداً, وأكرمهم عطاء ولو كنت أشدهم حرصاً, فأنت النسب وأنت الأصل وسواك من الناس معروف أصله وواضح نسبه..
فأين يمكن أن تشعر بكل هذا إلا هنا في هذا المكان الذي يشبهنا ونشبهه, يعرفنا ونعرفه.. اللهم لا تحرمنا دفئ أوطاننا..
ألطاف الأهدل
أين البلد..؟! 1448