إحدى الأناشيد التي تنتشر في "يوتيوب" تمتدح قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، تقول الكلمات: "أمانة المذهب بإيده.. لأنَّ من الله تسديده.. سليماني.. رجل مشهود.. عزم بارود.. قال النصر للشيعة.. سليماني".
قبل أيام، نقلت مراسلة صحيفة فايننشال تايمز من طهران أن "وسائل الإعلام المحلية تحدثت مؤخرا بشكل مكثف عن سليماني كبطل في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ونشرت عدة صور له في ساحة القتال في العراق، الأمر الذي يُعد غير مسبوق في إيران التي لا تكرم العسكريين في العادة إلا بعد وفاتهم".
والحال أن مسمّى قائد فيلق القدس لم يكن يعبر يوما عن طبيعة المهمات التي يطلع بها الجنرال سليماني الذي لم يكن قبل العامين الأخيرين معروفا إلا في أوساط قليلة، فالرجل في واقع الحال ليس قائد فيلق (موجود بالاسم ولا مهمات له)، بل هو مسؤول العلاقات الخارجية السرية لإيران، بمعنى أنه يدير مشروع التمدد الإيراني في العالم بأسره، وليس في المنطقة العربية وحدها، وهذا هو سر الأنشودة التي عكست الحقيقة بقولها إن مصير "المذهب بيده"، بعد تحويل العامية إلى فصحى.
يمكن القول إن إدارة سليماني للحرب في سوريا كانت مرحلة مهمة بالنسبة لسليماني، فبعد أن ترنح النظام السوري أمام ضربات الثوار عام 2012 وبداية 2013، أمسك سليماني بالملف كاملا، وحشد المليشيات الشيعية من الخارج، وأدخل حزب الله في المعركة، وبدأ يدرب المليشيات العلوية، والنتيجة أنه أصبح الرجل الأهم في المعركة، أكثر بكثير من بشار الأسد نفسه، لكن هذا الدور بقي في الإطار غير المعلن، إذ تواصلت حالة الإنكار الإيراني للدور المباشر في سوريا. وحين تحدث نصر الله عن دور مقاتليه المحوري، غضب بشار، فاضطر إلى التوضيح.
وحين سيطر تنظيم الدولة على الموصل، في مفاجأة لم تكن متوقعة، وتبعا لها مناطق أخرى، تدخل سليماني بنفسه، وهذه المرة بشكل معلن، إذ لم يمانع الرجل الغامض، أو رجل المهمات السرية، في أن تظهر صوره وهو يدير المعارك بنفسه، بل يجري الحديث عن ذلك بشكل مباشر. ثم توالت بعد ذلك التقارير والصور في الوكالات والصحف الأجنبية عن دوره.
قبل ذلك، أعني قبل دوره العلني الأخير في العراق، كان نشاطه سريا، لكن الأوساط السياسية كانت تعرف الحقيقة، ولم يتردد مقتدى الصدر ذات مرة، وفي معرض تنفيس غضبه على المالكي، في القول إن سليماني هو الحاكم الفعلي للعراق.
من لبنان إلى العراق إلى سوريا واليمن، وصولا إلى البحرين والسعودية وحتى أفغانستان، وكل مكان يوجد فيه شيعة، يحضر سليماني بقوة، وهو ذاته كان مسؤول العلاقة مع حماس والجهاد الإسلامي، قبل أن تسوء العلاقة مع حماس بسبب الموقف من سوريا، لكن الجهد في فلسطين كان أيضا جزءا لا يتجزأ من مشروع التمدد الإيراني، وإن حظي بقبول في العالم الإسلامي نظرا لأولوية الصراع مع العدو، وفي ظل عدم وضوح مشروع التمدد الإيراني على النحو الذي يبدو عليه منذ احتلال العراق.
وفي حين كان الشعار المعلن لمشروع سليماني في السابق هو المقاومة والممانعة، ومواجهة الاستكبار، فإن الوضع اليوم يبدو مختلفا، وقد قلنا منذ العام الماضي إن المشروع سيتحوَّل من شعار المقاومة والممانعة إلى رعاية المذهب والحديث باسمه، واستخدام أتباعه. وها هي الأنشودة كما قلنا تلخص الأمر (المذهب بيده.. وقال "النصر للشيعة".. على من؟!).
ولمزيد من التدقيق في حقيقة المشهد الذي يديره سليماني هذه الأيام، فإن الأمر بات أكثر صعوبة وتعقيدا مما كان عليه في السابق، فالرجل يواجه نزيفا رهيبا في سوريا، وها هو يواجه معركة مضنية في العراق أيضا، أما في اليمن فإن كلفة الحفاظ على انتصار الحوثيين ستكون باهظة أيضا، ونزيفهم سيتواصل بيد القاعدة وسواها، ما لم يغيروا نهجهم، وهو ما يُستبعد في واقع الحال.
ويزداد المشهد تعقيدا حين نعلم أن المعركة بالنسبة للمحافظين الذين يُعتبر سليماني أهم رموزهم هي معركة وجود، ذلك أن الفشل في المعارك الدائرة حاليا، ونهاية المشروع الإيراني (الحالم جدا) إلى نهاية طبيعية بأن تحصل إيران على حصتها في المنطقة دون تغول على الآخرين، سيعني أن ما صُرف عمليا، وهو رهيب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وألقى بظلاله على حياة الإيرانيين، قد انتهى إلى لا شيء عمليا، الأمر الذي سيصبُّ دون شك في صالح الإصلاحيين الذين رفضوا ويرفضون هذا النهج.
في حواره مع صحيفة الأخبار اللبنانية التابعة لحزب الله، لم يتردد وليد المعلم في هجاء الإصلاحيين، الذين سماهم "أصحاب النهج الليبرالي"، مقابل مديح المرشد والحرس الثوري، وكل ذلك في معرض الحديث عن العلاقة المتينة مع إيران، والدعم المالي والتسليحي والسياسي الذي قدمته للنظام في سوريا.
ويبدو أن ذلك كان محرجا للقيادة الإيرانية، مما اضطر حسين أمير عبد اللهيان مساعد وزير الخارجية الإيراني إلى نشر تصريح في وكالة فارس أكد فيه "عدم وجود أية خلافات في وجهات النظر بين المستويات العليا الإيرانية حول ضرورة دعم سوريا في مواجهة الإرهاب واستمرارية العلاقات الإستراتيجية بين البلدين".
من الضروري القول إن تداعيات تحول إيران إلى دولة راعية للمذهب الشيعي، وسليماني إلى ملهم يعلن بلسان الحال أن "النصر للشيعة"، تعني تدميرا لحالة التعايش في المنطقة، ورفعا لأسهم الجهاديين السنّة، وفي مقدمتهم تنظيم الدولة، لأن هيمنة سليماني في العراق وسوريا ولبنان واليمن (كل ذلك إلى حين) لا ينفي أن وجود أقليات شيعية في دول كثيرة، ستتكون في حالة تناقض مع مجتمعاتها أيضا، وبالطبع بسبب اعتبارها أن سليماني هو مرجعها العملي، وإن لم تعلن ذلك.
إنه مشروع عبثي يدمِّر التعايش في المنطقة، وذلك بعد أن ساهم في تدمير الربيع العربي من خلال توجيه ضربة قاسية لمسيرة نجاحه في سوريا (التقى في ذلك مع أنظمة الثورة المضادة العربية)، وهو الربيع الذي كان يبشر بدولة مواطنة تساوي بين الناس في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم.
وهو (أي المشروع الإيراني) مشروع عبثي لأنه يساهم في استنزاف إيران، ومعها يستنزف الأمة جمعاء في صراع لن يستفيد منه سوى العدو الصهيوني، ولو عاد قادتها (المحافظون الذين يمسكون بالملف الخارجي) إلى رشدهم لكان بالإمكان التفاهم على سبيل لتعايش محاور المنطقة الثلاث (العرب وتركيا وإيران) على قواسم مشتركة تخدم الجميع.
ربما سيحدث ذلك يوما ما، لكن الأحلام المجنونة ستجعله بعيدا، وستجعل الكلفة أكبر بكثير، إذ يعلم الجميع أن الحروب الطائفية والمذهبية هي أكثر الحروب قسوة ودموية في التاريخ.
كاتب أردني
ياسر الزعاترة
أمانة المذهب بإيده!! 1360