يمشي متعثرا.. يتمسح بالجدران, يرمي ببصره يمينا وشمالا, يقذف به الأجساد المتحركة من حوله, يتحرش بعينيه بظل امرأة أو طفل, أو شيء مما يختلج في نفسه اشتهاءه..!
يضرب بكفه بطرقات متلاحقة مزعجة على باب أخيه وهو غائب يتسوّلهم كسرة خبز أو شربة ماء.. تنهره زوجة الأخ لطرقه بابهم في غياب زوجها, وترده بتوبيخ مقذع, يتقهقر بذلة وصغار ويجلس منزويا في ركن قصي أمام منزلها منتظرا عودة أخيه ليواصل عمله بنقل الأحجار لبناء حجرات إضافية في منزل أخيه الأصغر منه بمقابل لقمة حافة وشربة ماء!
رجل مسن محتفظ ببقايا قواه, يحرك مرآة في النفس معاني الكدر والبلادة وانعدام الرغبة في شيء.. عيونه ميتة كروحه الفارغة وعيشه التافه الغير مهدّف.. هل وجد نفسه فجأة شيخا هرما صفر اليدين؟ لا.. هو فقط لم يحسب حساب هذه المرحلة من حياته, لم يتزوج, لم ينجب, لم يبني له بيتا, لم يكوّن له رصيد مال أو احترام لدى الناس..!
لم يتعلم, ليس لديه حرفة يتكسب منها لقمة حلال, لم يسع في شبابه لنيل مكسب الحياة الكريمة, وهاهو الآن مجرد نكرة؛ بل هو لا شيء؛ لأنّا بالنكرة ندرك المعرفة أما هذا الكائن وأشباهه فلا يحركون في الوجدان شيئا من الإدراك, لا شيء سوى الكدر والضيق الشديد من وجودهم الغير مجدي..!
ولد وعاش وسيموت وهو لا شيء, ليس أكثر من حروف اسم عربي, لم يضف للحياة شيئا غير إزعاج من يثقل عليهم بتطفله البغيض..!
ربما أنه أفنى شبابه في لهو بريء أو غير بريء..!
ربما عاش دهره على الهامش غارقا في أحلام اليقظة, ربما حلم بأشياء كثيرة لا تعدو كونها سخافات لخيال مفرط, وفرط برصيد عمره وقواه وتمنى على الله الأماني..!
تمر بجواره جارة لأخيه فيهمهم لها يريد المحادثة والتعارف.. تأنف من مجرد النظر إليه ذلك الهرم المتبلد الشعور, تحدث نفسها: ماذا يظن نفسه هذا الشيء المتحرك الذي ينافس البشر على الهواء والماء؟!
بعد أيام زادت أم نقصت سيموت, وسيذهب للتراب جثة هامدة لم تترك بعدها عرفا زكيا, لن يترك في الخاطر سوى ذلك الوجه الباهت الملامح, وتلك النظرات الماكرة الشرهة, والكثير من العفن الروحي الذي أزكم به أنوف أقربائه لدهر..!
من سيفتقده, من سيبكيه؟ لا أحد..!
هذه سيناريو عيش الكثير من الناس, يتحركون بيننا كفقاعات من غثاء السيل, يتبعثرون كنقط متشردة بين سطور الكون, يشوهون صفحات الحياة, يختارون ذلك لأنفسهم بلا مبالاة ولا وعي, أو ربما يختارونه بوعي تام في بدء شبابهم غير آبهين بركض سنوات العمر نحو هاوية النهاية, ثم عندما يهرمون لا يمكنهم حتى مجرد اليقظة والتوبة من جريمة التفريط في حق أنفسهم.. من شب على شيء شاب عليه!
رأيت منذ أيام خبرا عن كهل أوروبي جعل من سيارته القديمة مكتبة متنقلة يسير بها في قرى بلدته ليحث الناس على القراءة مجانا!!
الحياة فيها الكثير من المهام النبيلة والميسورة, والتي تجعل للإنسان مكانة عند الله وعند الخلق, وقد قال حكيم من المسلمين قديما: إن أردت أن تعرف عند الله مقامك فانظر فيما أقامك؟!
أنظر ما دورك في الحياة, هل أنت مدار علم أو مصدر للخير أيّا كان, هل أنت محور عيش لأناس يحبونك وينتظرون عودتك كل يوم للبيت, هل أنت شخص مؤثر و لك بصمة في الحياة؟
من أنت؟ ماذا تفعل اليوم؟ ما الذي تريده لغدك ؟ كيف ستصبح عندما تكبر, وأين ستكون بعدما تهرم وتشيخ..؟!
الآن قم وتحرك واكتب نهاية تليق بك كإنسان!
نبيلة الوليدي
العدم المتحرك..!! 1236