منذ سنوات بعيدة خرجت من الشرق الأوسط، من اليمن تحديداً، ابتعدت عن دائرة الوجع، قلت لنفسي هذه منطقة تأقلمت مع أوجاعها، ولم يعد لديها مشكلة في التعايش مع مشكلاتها اليومية.
يقول لي سائق التاكسي الذي أخذني إلى مبنى الصحيفة، أنت تكتب وتتابع الشأن السياسي: «ما الذي أصاب هذا الجزء من العالم؟»، ألوذ بالصمت بعد محاولة بائسة للإجابة على السؤال.
في رأسي مئات آلاف الصور المحشورة في الذاكرة، أحس برأسي يكاد ينفجر لتكدسها فيه، دون فرز أو ترتيب. صور لناس يقتلون، ويذبحون، وأشرطة فيديو منبعثة بروائح الدم تزكم الأنوف، وتترك لطعاً أرجوانية على أرواحنا وأرواح أبنائنا لأجيال طويلة. صور للمدن التي انسكب منها التاريخ، وبدأ فيها الإنسان أولى خطواته الحضارية قبل أن تمسح من على وجه الأرض في واحدة من أكبر نكبات الأمة على يد أبنائها في سوريا.
ما الذي حدث لمنطقة الشرق الأوسط؟ قالها صاحب تاكسي في لندن. قذف بسؤاله، قبل أن يقذف بي إلى أحد شوارعها، وينساب بسيارته وسط الشارع اللندني المقبل على الحياة.
سؤال محير، موجع، يبعث على الخجل، يجعل العربي يمشي حاملاً على ظهره دماء عبس وذبيان وبكر وتغلب، والقيسية واليمانية وحاشد وبكيل، والجمل وصفين، وتاريخاً مثقلاً وحاضراً كغيمة شتاء، ومستقبلاً غامضاً، وطرقاً تشعبت حتى أصبحت أشبه ما تكون بمتاهة لا نكاد نصل معها إلى نهاية. كل نفق طويل لا ينتهي إلى ضوء، بل إلى نفق آخر أطول. ونحن أصبحنا أشبه بمن يستمرئ العيش في مدن الأنفاق الفكرية الرهيبة.
كيف وصلنا إلى هنا؟ كما قال كاتب عربي كبير، قالها ثم لفظ أنفاسه قبل أن يعرف الإجابة الدقيقة لهذا السؤال.
هل هي طريقة فهمنا للدين؟ هل هي السياسة؟ هل هي طريقة ممارستنا للسياسة؟ هل هو الخلط غير المنضبط بين الديني والسياسي؟ هل هو الغرب والأطماع الدولية في ثروات العرب؟ هل هو موقعنا الذي يجعلنا طريقاً تتصادم فيه المصالح الدولية؟ هل هو التاريخ وإسقاطاته، أم العقل وطريقة تعاطيه مع العصر؟ أم إن الأسباب تكمن في عدم قدرتنا على التقاط الفرصة لدخول الزمن، واقتناص منعطفنا الذي سنخرج به من عباءة التاريخ إلى إيقاع اللحظة المعاصرة؟
ربما كان السبب في ذلك هو الخوف، بعض الحيوانات تنطلق للقتال بدافع من خوفها وحبها للبقاء. هل نقتل لأننا خائفون؟ خائفون من الماضي ومتوجسون من الحاضر، وغير واثقين من قادمات الأيام.
ما الذي يمكن أن يدفع إنساناً يحمل سكيناً ليحز بها رقبة أخيه؟ ما الذي يجعله يثقب رأسه بالمثقاب أو يجز رقبته بمنشار كهربي؟ أو يتمنطق شراً لينفجر في جمع من الناس؟
أخرجت أحداث السنوات الثلاث الأخيرة كل ما كنا نخزنه في لا وعينا من أفكار، على شكل صور بشعة مرعبة، علينا أن نقف إزاءها، نعترف بها، نحللها، علنا نصل إلى إجابة على سؤال صاحب تاكسي لندني لا يزال معلقاً يبحث عن إجابة.
د.محمد جميح
سؤال مقطوع الرأس 1644