"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا "
ما أعصي الكلمات وما أوجع الرحيل حين يكون بهذا القدر، وما اعظم المصيبة عندما تؤخذ منا انبل وافضل الرجال!. فالقاضي نصر صالح عبدان من هذا الصنف النادر والجليل الذي يمثل رحيله فاجعة ومصيبة لا تقتصر على عائلته وذويه وإنما تتعدى هذا النطاق الضيق إلى سلطة القضاء خاصة والوطن عامة.
نعم فرحيل فقيدنا بما يمثله من قيمة وسيرة وقدوة حسنة وعطاء وخير وسلوك ونبل لهو الحزن الكبير المختزل في جوهره رزية وطن وأمة بكاملها. القاضي نصر عبدان أعده من قلائل الرجال الفاعلين المخلصين الخيرين الذين تجد أثرهم ناصعا وأين وجدوا أو ارتحلوا ؟.
إنني ادرك صعوبة الكتابة عن صديق وزميل وقاض بحجم الراحل فضيلة القاضي العلامة نصر صالح عبدان رحمه الله، فالكتابة عن قامة قضائية تشرف بها سلطان العدل ليس بالأمر الهين أو السهل، وبرغم كل ذلك هأنذا أحاول، ففي الكتابة هنا تنفيسا عن الكرب وتخفيفا عن الحزن، فعظمة المصاب تستوجب الخوض في غمار الكتابة دونما تهيب أو وجل ؛ بل وبلسان يردد مع الشاعر لبيد بن ربيعة:
بلينا وما تَبلى النُّجُومُ الطوالعُ.. وتبقى الدِّيارُ بعدنا والمصانعُ.
وما المالُ والأَهلون إلَّا ودائعُ.. ولا بُدَّ أَن تُردَّ الودائعُ.
مناقب الراحل كثيرة وما قدمه لوطنه وشعبه وأهله بلا شك كبيرا ويصعب سرده في مرثية وجيزة وفي لحظة حزينة كهذه.
إنَّه افضل تعبير لقولة: لا حَسَب كالتَّواضع، ولا شرف كالعلم " والفقيد الراحل هكذا عاش وهكذا عُرف بين أناسه ومجايليه وأقربائه، فمنذ عرفته كقاضي ومن ثم رئيسا لمحكمة يهر وبعدها قاضيا في محكمة صعدة ورئيسا لمحكمة الحد في يافع ورئيسا لمحكمة المضاربة ورأس العارة في محافظة لحج إلى أن توفاه اللهُ والرجل ديدنه التواضع والزهد والاعتزاز بنفسه، لقد كان أنموذجاً مجسداً لمقولة هارون الرشيد " الشَّرف يمنعُ صاحبه من الدَّناءة ".
نعم فمنذ عرفته في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم وتحديدا حين كان يعمل كاتبا بمحكمة يهر الابتدائية والبساطة والتواضع وحب الخير للناس والعطف على الكبار والصغار سمات لا تفارقه.
ومذ ذاك الوقت والرجل وبرغم ارتقائه وشغله ومشاغله ظل معدنه أصيل لا يتبدل أو يفقد بريقه،فمن قاض هنا إلى رئيس محكمة هناك واحترام الناس له يكبر ويزيد ويتعاظم، وهذا الاحترام لا يأتي صدفة أو مجاملة وإنما نتيجة لما لمسه هؤلاء من نزاهة وتواضع وسمعة طيبة لم تلوثها مطامع الدنيا وما أكثرها في هذه البلاد.
لقد كان نعم القاضي العدل الذي يعتز به كل شخص ينتمي الى القضاء كما وتشرف به كل من عرفه أو تعامل معه أو تقاضى أمامه. فبرغم معاناته المعيشية والوظيفية - والأخيرة أحرمته من درجته وترقيته المستحقة له ـ إلَّا أنه ظل منهمكا في قضايا الناس المهملة في "أضابير" المحاكم ولدرجة نسيانه متابعة لحقه الخاص في الترقية والدرجة أسوة بزملائه القضاة.
رحل الفقيد شريفا فقيرا إلَّا من محبة الناس ومن ذكرى عطرة ناضحة طيبة وصدق وخير وعدل وشرف وهكذا دواليك من السجايا والطباع الشريفة الكريمة التي جاد بها طوال حياته الزاخرة بالعطاء والبذل والتضحية والواجب، فسواء بين أهله محيطه المجتمعي الذي لم يتردد لحظة عن الوفاء بالتزامه نحوهم أو على مستوى وظيفته الجليلة التي غايتها تحقيق رسالة السماء " العدل " باعتباره مهمة الرسل والأنبياء.
وداعا فقيدنا البسيط المتواضع فمثلما قالت العرب: لا يتكبر إلَّا كلُّ وضيع، ولا يتواضع إلَّا كلُّ رفيع، كما أن احب الخلق إلى الله هم المتواضعون، وأنت كذلك خير تجسيد لحديث المصطفى القائل: ازهد في الدنيا يُحبُّك اللهُ، وازهد فيما عند الناس يُحبُّك النَّاس ".
تعازينا الحارة لأولاد الفقيد وأسرته الفاضلة وإخوانه وزملائه وأصدقائه، وتغمد الله فقيدنا بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنانه وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.." وكل نفس ذائقة الموت".
*رئيس محكمة استئناف م /الضالع
القاضي /محسن يحيى أبو بكر
ورحل قاضٍ تشرف به القضاء 1318