يخطئ من يدَّعي أن ما يحدث الآن للعرب كان متوقعاً، ويخطئ أكثر من يدَّعي أن ما جرى ويجري في المنطقة من انهيارات منذ جائحة عاصفة (الربيع العربي) بدايات عام 2011م كان غير متوقَّع بالمطلق إذ إنه وبقراءة متعمِّقة للأحداث والفوضى التي تفجَّرت في مساحات واسعة من الخريطة العربية عقب ذلك الربيع الذي تحول إلى خريف دموي سنجد أن ما حصل ويحصل حتى اليوم في المنطقة العربية من أحداث قد جمع بين منزلتي المتوقَّع وغير المتوقَّع إلا أنه ورغم هذه الحالة السريالية فقد كان من المؤمَّل بعد سنوات من التدمير الذاتي ومظاهر الفوضى التي تستعر نيرانها في أحياء العرب وشوارعهم أن يستعيد العقل العربي رُشده خصوصاً بعد أن اتضحت الصورة الحقيقية لتلك الثورات التي قيل إنها جاءت لتخلص المواطن العربي من استبداد الأنظمة إلا أنها من حملت ملامح أكثر استبداداً وأكثر خطورة على الشعوب والمنطقة برمتها عبر تثوير النعرات الطائفية والمذهبية في الفسيفساء المجتمعية وإثارة الأحقاد والضغائن وروح التمايز والانقسام داخل المجتمعات المحلية كما هو الحال اليوم في اليمن والعراق وسورية وليبيا وغيرها من البلدان والتي صارت تعاني من تهتك نسيجها الاجتماعي وضعف مناعة الداخل.
ليست صدفة أو مصادفة أن يتحول الإسلام إلى معسكرات (سنة – وشيعة) وأن تصبح الأقطار العربية ميداناً لهذا الصراع العبثي والوهمي حيث وإن أسوأ ما في هذا الصراع أنه الذي يُتيح للقوى الخارجية اللعب على تناقضات المجتمعات العربية إن لم يدفع بالصراعات الداخلية في الاتجاه الذي يخدم سياساته، وقد رأينا ذلك في العراق منذ سنوات ونراه الآن في اليمن وليبيا بعد أن غابت فيهما الدولة وحلت بديلاً منها الطائفة أو القبيلة أو المذهب. ولعل أفضل وصف لهذا الوضع البائس كان من قبل روجر كوهن في مقال بصحيفة نيويورك تايمز والذي وصفه بـ(الفراغ القاتل) لكونه من وجهة نظر ذلك السياسي الأمريكي يمهِّد لانتشار الفوضى في الدول العربية إن لم يعمل على تفتيتها من الداخل وبما يسمح بتحولُّها إلى حاضنة لنماذج متطورة من التطرُّف والإرهاب.
لقد تجلت في السنوات القليلة الماضية العديد من المؤشرات الدالة على أن مخطط تفكيك المنطقة وإعادة تشكيلها في شكل دويلات أو "كانتونات" جديدة يجري بسرعة شديدة ونظن أن تطورات الأحداث في المنطقة قد جعلت من هذا الهدف واضحاً ومفهوماً لدى الكثير من القيادات والنخب العربية ومع ذلك فلم يظهر في الأفق حتى اللحظة أي تحرُّك عربي في مواجهة هذا المخطط باستثناء تحرُّك القيادة السعودية ممثلةً بخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والذي سارع إلى رعاية وفاقٍ خليجي ومصالحة مصرية - قطرية لما من شأنه محاصرة الثغرات التي قد ينفذ منها مثل هذا المُخطَّط الهادف إلى إغراق المنطقة العربية في دوامة الاضطرابات ومفاعيل الصراع والانقسام أكان ذلك على نطاق المجتمع المحلي الواحد أو على مستوى علاقات المنظومة العربية ببعضها. وانطلاقاً مما سبق فان ما قامت به قيادة المملكة لم يكن فقط حسماً لخلاف بين دولتين شقيقتين بل إنها بذلك الفعل الإيجابي والحكيم نزعت فتيلاً كاد أن ينفجر ووضعت أول بذرة لمصالحة عربية شاملة في انتظار أن تؤكد الدول العربية قدرتها على التصالح في عالم لا يحسب حساباً إلا للأقوياء بقرارهم قبل ثرواتهم.
وإذا كانت المبادرة السعودية الشجاعة قد عكست بكل المقاييس أن الأمم الحية هي التي تستفيد من أخطائها إن كانت ترغب بالبقاء والديمومة فإنها من دقت جرس الإنذار للتنبيه بمخاطر هذه اللحظة الزمنية التي لم يعد فيها العرب يشكلون في مجموعهم (قوة إقليمية) بل صاروا مجرد دول مستضعفة وهامشية موزعة الولاءات والمواقف وان العرب إذا ما أرادوا أن يستعيدوا مكانتهم وتأثيرهم فعليهم بالتصالح والتوحد والخروج من دائرة التشرذم والتشظي ما دون ذلك فسيبقى العرب ليس أكثر من خيول يجرها الأعداء إلى حتفها.
ـــــــــــــ
*الرياض السعودية.
علي ناجي الرعوي
هل يتصالح العرب؟! 1537