يسمح اكتمال المشهد الانقلابي على الثورة التونسية اليوم -أو ما يسميه الإعلام المضاد بالمرحلة الانتقالية- بقراءة المسار الذي مرت به ثورة 17 ديسمبر الخالدة، بدءا بسقوط أوائل الشهداء، وصولا إلى الانقلاب الناعم الذي توجته الانتخابات الأخيرة المزورة لتفرش البساط عريضا أمام عودة جلاد الشعب.
عاد الجلاد مع تدشين حملة الاعتقال التعسفي بإيقاف النشطاء والمدونين -كابن شهيد المؤسسة العسكرية العقيد العياري- ومنع رئيسة لجنة الحقيقة والكرامة من الوصول إلى الأرشيف الرئاسي، وعودة دولة البوليس.
الانقلاب التونسي الجديد هو أخطر الانقلابات التي عرفها تاريخ الاستبداد الدامي في ديار العرب، لأنه انقلاب انتخابي يطبع الاستبداد بطابع الاختيار الحر ويمنحه شرعية لم ينلها يوما منذ نشأته بيننا في ديار العرب، فإذا كان الانقلاب المصري دمويا بشكل صارخ -أنجز بأحذية العسكر وقناصة الشرطة- فإن انقلاب تونس رطب ناعم نجحت السفارات الأجنبية ووكلاء الداخل في طبخه على نار هادئة، وخرج دافئا من صناديق الاقتراع.
هذه المقاربة ككل مقارباتنا صواب يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب على رأي المدونة، وليست بكاء على الأطلال، فلنا في رصيدنا المعرفي من اللطميات ما يغني عن المزيد. نقول ذلك لأن البعض قد يرى في هذا التوصيف تجنيا على "الديمقراطية الوليدة" في المنطقة العربية ورفضا لنتائج انتخابات صوّت فيها الموتى والأشباح بالآلاف، وهو ما نتمناه نحن أيضا، بل نرجو أن تكون قراءتنا مجانبة الصواب، وأن يكون الرئيس التسعيني حاملا مشعل الحرية، ضامنا حق التعبير، ناصرا دماء الشهداء.
غير أن كل استقراء للحدث والخطاب سواء أصاب أو أخطأ إنما مرتكزه الأول هو الوقائع على الأرض، ودروس التاريخ ثانيا، وآليات تفكيكية وتركيبية ثالثا، لإنشاء المعنى وصياغة الموقف.
الوقائع والمعطيات وسير الماضي القريب والبعيد تؤكد أن طبائع الاستبداد لا تتوج مسار الثورات، وأن الثورات نفسها إنما جاءت حركة عكسية قاطعة لمسار الاستبداد، فكيف نفهم خارج منوال التزوير الأفقي والعمودي أن تتوج ثورة الشباب الدامية بعودة عصابة السراق وأباطرة نظام القمع؟ هل حن الشعب التونسي والعربي لعصا الجلاد؟ أم قرر فجأة إلغاء مطلب الحرية؟ كيف يفهم هذا خارج منطق الانقلاب والتزوير وخيانة النخب العربية؟
في حركة معبرة وفاضحة استبقت قنوات إعلام العار التونسية نتائج الانتخابات الرئاسية، وأعلنت قبل غلق مكاتب الاقتراع أن مرشح الثورة المضادة قد فاز في الانتخابات على مرشح الثورة، الأغرب من ذلك والمثير للريبة هو أن نتيجة الانتخابات النهائية كانت على شاشة إحدى القنوات التلفازية المضادة قبل يوم من الانتخابات نفسها.
نتيجة الانتخابات لم تكن مفاجئة لأنها تعتبر تطورا طبيعيا في المسار الذي أخذه الربيع العربي منذ بدايته إلى اليوم، سواء في تونس أو في بقية الدول العربية التي شهدت حركات شعبية أسقطت رأس نظامها السياسي، من مصر إلى اليمن إلى سوريا فتونس وليبيا، كلها دول نجح النظام الاستبدادي داخلها في العودة إلى المشهد، وفي قلب المعطيات على الأرض لصالحه، سواء بتدمير الدولة والبلاد (سوريا) أو بالانقلاب العسكري (مصر) أو بالتدخل الأجنبي (اليمن) أو بتزوير الانتخابات (تونس) أو بإشعال الحرب الأهلية (ليبيا واليمن)، كل ذلك بدعم خليجي كبير وبمال فاسد لا حدود له.
الثابت الأصيل هو أن الثورة التونسية لم تكن ثورة نخب، وهو سر نجاح طورها الأول، حيث تمكنت في ظرف قياسي من إسقاط رأس الاستبداد، لكن نفس هذه الخاصية هي التي منعت في طور ثان بناء دولة الثورة.
الخطأ التاريخي الذي ارتكب غداة الثورة هو حالة الفراغ القاتل في هرم السلطة، حيث تسلمت عناصر من النظام القديم خلال الحكومتين الأولى والثانية مقاليد الدولة، وبدأت في وضع أعمدة الانقلاب على إرادة الشعب، وتمكنت في ظرف زمني وجيز -وبغرفة عمليات أجنبية- من امتصاص جزء كبير من المد الثوري.
تحركت آلة الإعلام الجهنمية في مرحلة موالية لتدعم الحرائق الاجتماعية التي أشعلتها القيادات النقابية التابعة لنظام "بن علي" على الأرض، حيث أغرقت البلاد في المطلبية الاجتماعية القاتلة في سياق مرحلة ما بعد الثورة القائمة على انعدام العدالة الاجتماعية وفقر طبقات بكاملها.
تواصل الاحتقان الاجتماعي بعد انتخابات 2011 وسقطت حكومة الترويكا في محرقة السلطة فعجزت بذلك عن تحقيق هدف مركزي، وهو تحييد أركان الحرس القديم التي بقيت فاعلة في المشهدين السياسي والاجتماعي مدعومة بعصابات النهب والسلب وشبكات المصالح العميقة.
أدركت الدولة العميقة أن وجود الإسلاميين بشكل فاضح في السلطة وتشبثهم بها فرصة نادرة للقضاء على الثورة، لا على الإسلاميين الذين يمكن تحويلهم إلى حليف موضوعي عند فصلهم عن قاعدتهم الشعبية العريضة ذات الموقف الحاسم في التعامل مع النظام القديم وجرائمه الدامية، وهو ما يحدث اليوم في تونس.
انقلاب اليوم ليس على حركة النهضة، ولا على الإخوان في مصر مثلما يروج لذلك إعلام العار في تونس أو الإعلام العربي الفاخر فهذا مطلب يسير، بل هو انقلاب على ثورات الفقراء والمسحوقين، شارك غباء الإسلاميين السياسي وخلل قراءاتهم وجشعهم في إنجاحه بشكل كبير.
نجحت الدولة العميقة مدعومة بسياق الدعم الكبير الذي توفره الحرب الأميركية على "إرهاب العرب والمسلمين" في شيطنة الربيع العربي جميعا، وقدمت الجماعات "الإرهابية" التي صنعت قياداتها أجهزة المخابرات العربية بديلا عن الواقع الجديد بل البديل الوحيد عن الاستبداد.
الرسالة واضحة لا غبار عليها للشعوب العربية وللمسلمين خاصة، فإما الرضا بالتخلف وبأنظمة الموت وبمدائن الملح، أو نحن نكلف من أبنائكم من يحرق الأرض تحت أقدامكم، ولكم في نماذج الذبح العربية خيارات شتى في سوريا أو ليبيا أو اليمن أو مصر أو "داعش".
أكثر نتائج الانتخابات التونسية الأخيرة رعبا -سواء منها الانتخابات التشريعية أو الرئاسية- ليس سيطرة النظام القديم على كل مفاصل السلطة السياسية في البلاد، بل الانقسام المخيف للبلاد بين الجنوب المهمش والشمال المترف، أي بين المركز والهامش.
انكشاف حجم الدمار -الذي أصاب النسيج الوطني كنتيجة حتمية لسنوات من التهميش والاحتقار والتنموية الفاسدة- حقيقة لا تخطئها الخارطة الانتخابية سواء في التشريعيات أو الرئاسيات، بل إن إرهاب الخطاب الإعلامي التونسي لا يفوت فرصة واحدة في حفر الهوة بين شمال البلاد وجنوبها، حتى على مستوى التمثيل اللغوي لما يزيد على ثلاثة أرباع السكان في ترسيخ فاضح لسياسية التمييز والاحتقار الممنهج.
الكارثة هي أن أكثر الأبواق والنخب حديثا عن الوحدة الوطنية وعن الديمقراطية وعن العدالة الاجتماعية هي من تزرع عبر خطابها الاستئصالي كل كوراث الغد، وهي من توفر للتطرف والعنف أخصب الأرضيات للنشأة والتمدد.
الخطير في النتائج الأخيرة هو سياق الدفع نحو اليأس من التغيير، فلا حديث عن الثورة اليوم ولا عن الشهداء، فهذا قوس قد أغلق، بل إن منصات الإعلام الانقلابي قد نجحت في ربط الثورة بالفوضى والبطالة وانتشار الفضلات، وحتى بالإرهاب والموت من أجل شيطنة كل إرادة أو رغبة في التغيير.
خطورة التيئيس هي أنها حجر الأساس النفسي لكل أشكال التشويهات الاجتماعية والسلوكية فردية كانت أو جماعية، وعلى رأسها النزوع إلى التطرف والعنف باعتبارهما آخر الاهتزازات المنظورة في سلوك الفرد، وهي أولى طرائد الإعلام العالمي.
ربيع تونس هو مركز حركة التغيير العربية، وهو بهذه الدلالة والموقع الوظيفي على قدر كبير من الرمزية والفعل المؤثر في باقي التجارب العربية التي شهدناها خلال السنوات الأربع الماضية، لكن من الواضح أن أثر الانقلاب المصري على ربيع تونس وعلى الربيع العربي بشكل عام كان حاسما، مما يسمح بفرضية خلاصتها أن حركة التغيير العربية مهما كانت نوعية وظيفية فإنها لا تنجح ما لم تسند بظهير هندسي بحجم دولة عربية كبيرة.
من المؤكد القول إن لنتائج الانتخابات التونسية الأخيرة أثرا بالغا على باقي ميادين الصراع مع أنظمة "الموت" العربية، وليس سيل التهاني المنهمر على تونس من أقطاب الاستكبار العالمي ووكلاء الاستعمار في المنطقة إلا دليلا على زيف الانتخابات الأخيرة.
ليس التزييف والتزوير غريبين على من اعترف بنفسه أنه وراء تزوير انتخابات حقبة الاستبداد، بل لقد كان التزوير سيد المشهد منذ تزكيات الانتخابات الرئاسية وعبر جحافل الموتى الذين صوتوا بكثافة في الانتخابات الأخيرة، خاصة تزوير أعمق طال وعي الشعب التونسي بجرائم أنظمة الفساد مع انحسار منسوب الإسلام السياسي ونهاية الوهم.
انتخابات تونس تمت في سياق كارثي، وأجريت تحت قصف مكثف لمنصات الإعلام، وحرائق اجتماعية لا تنتهي، وشحن غريب ومرعب ضد الثورة والتغيير لا ضد مرشح بعينه رغم الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها.
الانتخابات تمت تحت سقف مزيف من الوعي، حيث نجح الإعلام في جر الناخبين إلى التصويت كرها لهذا المرشح أو ذاك، ونقمة على الشكل الاجتماعي الذي يمثله، بل حتى على لون بشرته وعلى مسقط رأسه، ولم تشفع له حتى إقامته في ربوع السلطة الساحلية ولا تبنيه لهجة الشمال المسيطرة على المجتمع والدولة.
الصراع في تونس ليس بين هذا المرشح أو ذاك مثلما تزعم "النخب الوطنية"، فكلاهما زائل بل هو في عمقه صراع بين فكرتين وبين مشروعين لن يزولا، مشروع التغيير وإرادة الحياة من ناحية، ومشروع الاستبداد وتأبيد الموت من ناحية أخرى.
الفائز الأكبر في انتخابات تونس وفي كل الربيع العربي هو الوعي العربي الجديد بالمشهد عامة، فقد وفر علينا الربيع سنوات ضوئية من التجارب والأخطاء، لنفهم طبيعة الصراع وآلياته وحجم العناصر المكونة للمشهد جملة، وندرك زيف النخب ونفاق تجار النضال ونخرج من حالة النوم العميق.
وليس مجموع الصدمات الناتجة عن الوقائع الأخيرة إلا حجر الزاوية في حركة التغيير القادمة حتما، وهي حركة ستحمل في سقف الموجة وعيا بخلاصات الموجة السابقة لن تترك على السطح نتوءات تعطل بلوغ المد منتهاه.
أكاديمي وباحث تونسي
محمد هنيد
ألف مبروك للثورة المضادة.. ولكن 1001