كنت امرأة من ذلك الطراز الذي يحمل نقاط الحروف على رأسه ويسير على السطر بزاوية أداء منتظمة جداً.. لا إجازات، لا مجاملات اجتماعية لا خروج عن إطار العمل ومصلحة العمل. وبين كل فترةٍ وأخرى أنظر في المرآة فأرى وجه أمي التي علمتني احترام نفسي ووقتي وكل فكرة عليها أن تطور من مستوى أدائي كنت امرأة مريضة بالنظام والدقة وقد حرمني هذا المرض من اكتشاف أشياء جميلة في الحياة, يمكنها أن تساعدنا على تجاوز الكثير من المحن لكنني لم أكن أعرفها، فقد لازمت فراش الالتزام والمثابرة في مجتمع لا يبالي بالوقت وليس لديه أدنى درجات الالتزام الوظيفي واليوم كبرت ووصلت إلى درجة الاختفاء بنفسي حين أراقب آخرين فأخريات من حولي يسيرون نحو خط النهاية بلا هدف.
قبل أن أفهم الحياة لم أكن أجيد الصيد فسهامي بلا نصل وبندقيتي بلا ذخيرة، وأنا مع هذا وذاك مناورة جيدة، لكنني أفقد القدرة على نسيان ذاتي ولذا أعود من كل معاركي بخفي حنين!..
كنت أسير برفقة أولادي يوماً وفجأة استوقفتني إحدى بناتي قائلة: ماما.. لقد تجاوزنا المطعم الذي سنتناول فيه طعام العشاء معاً، نعم فأنا أفكر في عملي حتى وأنا في رحلة حُب مع أولادي الذين لا أحب شيئاً في الحياة مثل نجاحهم.
لكن أعتقد أنني فهمت اليوم شيئاً مهماً لم أكن لأفهمه لولا تجارب الأداء الناجحة والفاشلة التي خضتها بمفردي وانا أحاول أن أتسلق إلى القمة. فكل صدمة عانيتها جعلتني أبدأ من جديد وكل صفعة تلقيتها أكسبتني خبرة مميزة، وكل ركلة جزاء نلتها علمتني أن أحسن تحديد الهدف بدقة في المرة القادمة، وكل دمعة أحرقت وجنتي كانت قد غسلت في طريقها شوائب كثيرة لا تستطيع أن تراها عيني..
قبل أن أفهم الحياة لم أكن أستطيع التفريق بين من يراني بعين قلبه ومن يراني بعيني رأسه واكتشفت اليوم وقد جاوزت الأربعين أن أمي وأبي فقط هما من يملكان عيناً ثالثة يمكنها أن ترى كل ما يدور في خلجي دون أن تنطق شفتاي ولو بكلمة، مرحباً بالحياة، لكن فهمتها..
ألطاف الأهدل
قبل أن أفهم الحياة 1347