في ذكرى المولد النبوي، خرج علينا الجنرال عبد الفتاح السيسي بدعوة عجيبة نتجت عن دعوى أكثر إثارة للعجب، ولولا أن الأزهر والإفتاء وكل مؤسسات الدولة ذهبت تتفاعل مع الدعوة -وكأنما السيسي هو مجدد القرن- لما استحق الأمر هذه الوقفة، ولاعتبرنا تلك الكلمات جزءا من القصص التي يخرج بها الرجل علينا بين حين وآخر.
السيسي -وحتى يتجنب اتهام الدين برمته- اتهم النصوص المقدسة (ما هي تلك النصوص غير القرآن والسنّة؟) بأنها تدفعنا لعداء العالم أجمع، وبأنها تضع مليارا وستة أعشار مليار من المسلمين في مواجهة مما تبقى من 7 مليارات من البشر، والنتيجة أن علينا أن نعيد النظر في "نصوصنا المقدسة" كي نكف عن العدوان على العالم، وتشويه صورة الإسلام التي يحرص السيسي عليها كل الحرص بطبيعة الحال بينما يشوِّهها الآخرون، الذين عليهم تبعا لذلك أن يستمعوا إليه كي يجري تصحيح الموقف.
وإذا جئنا نلخص حديث السيسي؛ فهو يعني بكل بساطة أن المسلمين هم المعتدون، وأن نصوصهم المقدسة هي التي تنتج العدوان، مما يعني أن عليهم أن يعيدوا النظر في تلك النصوص كي يوقفوا عدوانهم على العالم أجمع، وهذا ما ينبغي أن تقوم به المؤسسات التي ستصحح النصوص وتفجِّر الثورة، لكي يوقف المسلمون عدوانهم ويتعايشوا مع العالم من حولهم.
إنه منطق كارثي من دون شك، وكان أولى بشيخ الأزهر ومشايخه الكبار وبمفتي الجمهورية أن يطلبوا لقاءً عاجلا مع السيد الرئيس كي يخبروه بالورطة التي وقع فيها ليصححها في مناسبة لاحقة، لا أن يعلنوا النفير العام من أجل وضع خطط لتطبيق الثورة الدينية التي دعا إليها، وكأنما أتى بما لم تأت به الأوائل، وكأنما الأمة كانت في غفلة وجاء هو كي يوقظها، وينبهها إلى ضرورة تصحيح نهجها الخاطئ.
واللافت أن السيسي لم يتحدث عن جهات يراها متطرفة كي يكون المسار أكثر تحديدا، بل تحدث عن الأمة بأسرها، أي مليار ونصف مليار من البشر، وكان يمكنه أن يتحدث مثلا عن تنظيم بعينه، أو عدة مجموعات ترتكب حماقات يمكن أن تؤدي بالفعل إلى تشويه صورة الإسلام، لكنه عمم الكلام على الجميع.
وإذا جئنا نبحث في بطون الكتب وتفاصيل التاريخ؛ فإن هذه المنطقة منذ قرون طويلة لم تتوقف عن صد هجمات الأعداء التي كانت تُشن باسم الدين، منذ الحروب الصليبية وحتى حرب جورج بوش ضد العراق التي أسماها حربا صليبية أيضا، وقبل ذلك وبعده العدوان الصهيوني المدعوم غربيا في فلسطين، فضلا عن أفغانستان، ولا حاجة لذكر فصول أخرى من القتل والاضطهاد في مناطق عديدة من العالم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لم يقل الغربيون مثلا إن عليهم أن يصححوا نصوصهم الدينية لكي يوقفوا عدوانهم على الآخرين؟ ولماذا لم يتحدث نتنياهو عن التوراة التي تبدو أشبه بكتاب حرب منها بكتاب مقدس، حيث يتحول الرب إلى جندي أو قائد جيش يعمل على مطاردة أعداء "أبنائه"؟!
لماذا لم يتحدث أحد عن سائر المجازر التي ترتكب باسم الدين، بما في ذلك مجازر تبررها أديان تدعو إلى السلم، كما هو حال البوذية التي يحرِّض رهبانها على قتل المسلمين في بورما؟
في كل الأديان والمذاهب ثمة نصوص يمكن استخدامها في تبرير الحروب على الآخرين، لكن البعد السياسي هو الحاكم، والحروب الصليبية استخدمت شعار الصليب لكنها كانت في جوهرها حروب توسع ونهب، وهرتزل الذي أسس المشروع الصهيوني كان ملحدا، لكنه استخدم الدين في حربه من أجل سرقة أراضي شعب آخر.
والخلاصة هي أن الأديان لا تصنع حروبا، بل تستخدم في تبرير الحروب من أجل حشد الناس، وما يصنع الحروب هي السياسة، والدليل هو أن جميع الأديان يكفّر بعضها بعضا، بل إن مذاهب داخل الأديان يكفر بعضها بعضا أيضا، وثمة حروب داخل المسيحية اندلعت بين مذاهبها المختلفة.
واليوم نرى في الساحة الإسلامية حربا مذهبية لا مثيل لها منذ قرون، وهي كذلك حتى لو سوّقت إيران غير ذلك، لكن واقع الحال هو أن لإيران مشروعها الذي يستخدم المذهب وقودا له، بل يستخدم أتباعه في كل مكان من أجل ذلك أيضا، وعموما كانت السياسة هي التي تتلاعب بالأديان أكثر مما يحدث بالعكس.
ولماذا نذهب بعيدا، فحين أراد السيسي نفسه تبرير انقلابه العسكري على رئيس منتخب، جاء بالمشايخ وجاء بالبابا إلى جانبه، وعندما قرر قتل الناس في رابعة وسواها، جاء بشيخ كان مفتيا سابقا لكي يقول له "طوبى لمن قتلهم وقتلوه"، أي أنه استخدم الدين في سياق تصفية حسابات سياسية، ومن أجل تبرير انقلابه وتثبيت دولته البوليسية، من دون أن نتجاهل أن الطرف الآخر (المقتول هذه المرة)، كان يستخدم أيضا نصوصا دينية من أجل تعبئة أتباعه وحثهم على الصبر والصمود، خاصة أنهم تيار إسلامي في الأصل.
وإذا عدنا إلى أصل الحكاية؛ فإن الأمة المعتدى عليها في واقع الحال هي أمة الإسلام وليس العكس، وهذه الموجة الأخيرة من العنف على وجه التحديد لم تبدأ إلا بسبب الاحتلال الأميركي للعراق، الذي لم يكن مسوَّغا لا من الناحية القانونية ولا الأخلاقية، وتبرير الحرب بحكاية 11 سبتمبر يعلم الجميع أنها كانت محض مبرر سخيف.
وقد قال مدير المخابرات الأميركية الأسبق جورج تينيت إن بوش دخل البيت الأبيض وقرار غزو العراق في جيبه، بل إن أحداث 11 سبتمبر نفسها لم تأت إلا ردة فعل على عدوان أميركي على الأمة من فلسطين إلى دعم الحكام الفاسدين وسوى ذلك من الممارسات، من دون أن يعني ذلك تبريرا لها (تبرز في هذا السياق تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دوفيلبان التي حمّلت الغرب مسؤولية الإرهاب في المنطقة).
والخلاصة هي أن الأزمة ليست أزمة نصوص، والأغلبية من ضحايا القرن الماضي والحالي لم يُقتلوا بأيدي المسلمين، بل إن القتلى من المسلمين هم الأغلبية، سواءً أقتلوا بأيدي الغرب أم بسبب دعمه وصمته كما هو الحال في سوريا مثلا، حيث تم الضغط من أجل حرمان الثوار من السلاح النوعي القادر على مواجهة نظام مجرم.
الأفكار والأديان لا تصنع عنفا ضد أحد، بل هي تبرره حين تكون الظروف الموضوعية جاهزة لإطلاقه ومنحه الحاضنة الشعبية والدعم الخارجي، وحين تتغير الظروف يعود كل شيء إلى حاله، ثم تتكرر الحكاية في حال الرد على عدوان معين.
ليس في ديننا ما يبرر العدوان إلا على الذي اعتدى علينا: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"، وهذه الأقليات الدينية الموجودة في هذه المنطقة دليل على التسامح بالفعل وليس بالقول فقط، أما النصوص التي تستخدم في سياقات أخرى فهي موجودة، ويجري إخراجها من بطون الكتب لأجل حشد الناس ضد العدوان لا أكثر.
لذلك كله، يمكننا القول إن ما يريده السيسي ليس تصححيح الدين بل تغييبه عن المجتمع برمته، وهو حين يريد محاربة ما يسمى الإسلام السياسي فإن عليه أن يحارب التدين وتبعا لذلك الدين، وهذا ما يفعله وسيفعله في واقع الحال مع أن نجاحه مشكوك فيه، لأن حجم الصحوة الإسلامية وتجذرها في وعي الجماهير سيكون أكبر من قدرته على اقتلاعها كما فعل عبد الناصر من قبل.
الجزيرة
ياسر الزعاترة
ثورة السيسي الدينية..من القاتل ومن القتيل؟. 1388