كان السيد/ محمد الشامي- رحمه الله- عاملاً على ما كانت تُعرف بإمارة الضالع، حدث ذلك عقب هزيمة الأتراك في الحرب الكونية الأولى 1914-1918م.. وقتئذ كان الاعتقاد السائد بأن كتائب الإمبراطورية العجوز وهي تجتاح مناطق التخوم لعدن المستعمرة البريطانية إنَّما هي قوات ذائدة عن حمى الإسلام ورايته.
لذا- وبمجرد هزيمة وانسحاب هذه القوات التي كانت طلائعها قد وصلت إلى مشارف الشيخ عثمان- كان الإمام يحيى قد أعلن قيام مملكته المتوكلية وعلى مساحة الشمال وبمباركة واعتراف من العثمانيين أنفسهم.
ولأن الضالع وغيرها من الإمارات والمشايخ والسلطنات الكائنة في الجنوب بقيت خارج سيطرة الإنكليز والعثمانيين على السواء, فقد ظلت هذه المسميات بعيدة عن هيمنة الطرفين المنتصر أو المهزوم، وتحديدا في الأعوام التالية للحرب.
نعم.. كان أمير الضالع أول من سعى للانضمام إلى مملكة الإمام اعتقادا منه أن المسألة تتعلق بالولاء والبراء.. قال قولته الشهيرة" حذاء الإمام المسلم ولا وجه الانكليزي الكافر" هكذا ظن ولبرهة، أوفد الإمام حامية عسكرية بقيادة السيد/ محمد بن محمد الشامي- عامل الإمام على الضالع.
وإلى جانب العامل تم إيفاد قاض اسمه "سيَّاف".. سيَّاف هذا- وبمضي الوقت- بات سيفا مسلطاً على رؤوس العوام البسطاء.. شاع الفساد وطغى الجبروت والرشوة والظلم، وساد الهجر والتحكيم وحق العسكري وحق نزع القيد وربطه.
في بضعة أعوام صار القاضي ذا ثراء وجاه وطغيان، ممارسات لم يحتملها الناس الذين عاشوا حقبة تاريخية في كنف عدالة المستعمر الكافر النصراني وتحضره وإنسانيته التي لا تقارن بظلم الحاكم المسلم.
شكا الرعية لعامل الإمام، قابل وجهاؤهم ومشايخهم الإمام يحيى، المرة تلو المرة وشكواهم يقابلها الإمام ببرود وفتور ولا مبالاة، وهكذا كان حالهم مع الإمام وقاضيه الظالم "سيَّاف" الذي لم تزده الشكوى غير مكانة وشراهة وبطش وعجرفة وثراء.
وإزاء إصرار الإمام على التمسك بقاضيه وتضحيته بالرعية كان أن لجأ القوم وأميرهم – الذي لم يسلم هو الآخر من التهميش والإقصاء والإهانة – إلى الانكليز وقوتهم العسكرية.. ثمانية أعوام فقط كانت كافية لإثارة معظم السكان على الإمام وحكمه، ثاروا جميعا على والي الإمام وقاضيه الظالم.
في مذكرات الوزير الأسبق أحمد الشامي- نجل أول وآخر عامل على الضالع- يذكر فيها أن النَّاس أطلقت على تلكم المعركة بـ"حرب الطائرات"، فلأول مرة يتم فيها استخدام الطيران الذي يحسب لها قصف مبنى عامل الإمام وكذا أماكن تواجد حاميته وعساكره الذين- وأمام الانتفاضة الشعبية المسنودة بالطائرات- كانوا قد هربوا تجرهم أذيال الخيبة والهزيمة, تاركين الضالع خلفهم في حالة غليان لم يهمد إلَّا برحيل آخر جندي من عكفة الحامية.
مما ذكره الوزير والسفير الأسبق في مذكراته "رياح التغيير في اليمن" هو أن ما حدث في الضالع سنة 1928م كان مؤامرة بين أميرها ووالي عدن – الانكليزي- ومع اختلافنا مع ما دونه الشامي نجده ناقلاً عن والدته قائلاً: كان والدي عاملاً على الضالع ويفضل التحبّب واللين والحوار والإحسان بينما كان والي المنطقة يحبذ – ويُزيّن للإمام – سياسة القوة والتشدد وعدم الاقتناع بما في اليد.
السيد/ أحمد الشامي, قامة وطنية وسياسية وأدبية لا يشق لها غبار، فحين انتفضت الضالع ثائرة برجالها ونسائها وشيوخها وشبابها كان الشامي طفلاً في الخامسة من عمره؛ إذ كانت ولادته في مدينة الضالع عام 1923م ، وهذا شرف يعتز به كل ضالعي أصيل وشهم.. أعد ذاتي واحدا ممن يفخرون بانتساب العلامة أحمد الشامي السياسي والدبلوماسي والمؤرخ والشاعر.
كنت أفضل لو أن الشامي اكتفى بما سمعه عن والدته، فالواقع أن ما حدث وقتها لم يكن إلا نتيجة لممارسات الوالي وعكفته الذين استباحوا كل شيء المال والأرض والكرامة والعدل والشرع والمواطنة والأنسنة، والوالي وعكفته كانا يجسدا الإمام وجبروته وطغيانه.
نعم ممارسات للأسف كفيلة بتحالف الضحية مع الشيطان وليس فقط الأنكليز، إنه ذات الجبروت والطغيان العنجهي الذي مازلنا نعاني منه اليوم ودونما نعثر له على حل شاف وكاف، فإلى اللحظة الحاضرة واليمنيون في خضم صراع تاريخي أزلي مازالت صورته ماثلة ومتجسدة الآن بالقوى المتصارعة المعيقة لعملية الانتقال السياسي..
محمد علي محسن
حكاية الوالي سيَّاف!! 1567