لا شك في أن صانع القرار الاستراتيجي بالولايات المتحدة الأميركية يشعر الآن بسعادة غامرة وهو يجني ثمار عمله في المنطقة العربية والإسلامية، والتي يعتقد الآن أنها أينعت.
فها هي جيوش ثلاث دول عربية كانت تشكل خطرا دائما على المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة قد زال خطرها. وانشغلت تلك الجيوش في حروب داخلية تستهدف شرائح واسعة من أبناء وطنها متهمة إياها بالإرهاب.
وهذا التقاتل العربي حلم لم يتوقع صانع القرار في كل من واشنطن وتل أبيب تحوله إلى واقع بتلك الصورة والسرعة، التي تدخل بمقتضاها تل أبيب في تحالف إقليمي غير مُعلن للحرب على ما يسمونه الإرهاب. وهي حرب تستهدف بالأساس المطالبين بدمقرطة المنطقة وتحررها من الطغيان والاستعمار والتبعية، قبل أن تستهدف "داعش" من وجهة نظرنا.
الحرب على الشعب
وربما تجلى ذلك التحالف العربي/الإسرائيلي غير المُعلن على إثر الحرب التي شنتها تل أبيب واستهدفت أهلنا في قطاع غزة الفلسطيني.
ومن بين ما أفرزته الحرب على غزة -وستكون له آثار مستقبلية- الترويج لتصريحات ساسة وعلماء دين أبرزهم العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، الذي وصف مذبحة رابعة -التي نفذها الجنرال عبد الفتاح السيسي ورفاقه بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز ٢٠١٣- بأنها أبشع وأفظع وأكثر خطورة من المذابح التي ارتكبتها "إسرائيل" بحق أهل فلسطين.
ونعتقد أن شيخنا الدكتور القرضاوي لم يقصد من وراء ذلك الإعجاب بإسرائيل، وإنما قصد بإطلاق تلك التصريحات مقارنة تجسد المأساة التي وصلت إليها أمتنا العربية، والتي تعيشها مصر بالتحديد.
وبنظرة للساحة العربية -وتحديدا ما يعرف بدول المواجهة مع تل أبيب، وأخص هنا العراق وسوريا ومصر- نجد الجيش المصري ينسق مع نظيره الإسرائيلي ليل نهار الآن لقتل أعداد من أبناء الشعب المصري في سيناء.
وفي ظل ذلك تنفذ مخططات لتفريغ منطقة الحدود مع قطاع غزة من سكانها بدو سيناء تحت ستار حماية أمن "إسرائيل"، والتنسيق المتواصل بين السلطات المصرية والإسرائيلية ضد المقاومة وحركة حماس، من أجل إحكام الحصار حول قطاع غزة وعزله عن مصر تماما، ومنع وصول أي مؤن أو مواد غذائية أو أسلحة إلى أهله المحاصرين برا وبحرا وجوا.
وبشأن ما يحدث في العراق من تطاحن ومعارك، لا بد أن نشير هنا إلى أن الغزو الأميركي للعراق قد حل جيش هذا البلد ودمر أسلحته وسيطر عليه، ونشر الفتن بين أهله وفجر معارك دموية بينهم لا تبدو لها نهاية. مع العلم بأن الجيش العراقي كان ثالث جيش عربي واجهت كتائب منه "إسرائيل" في حرب أكتوبر ١٩٧٣.
وفي سوريا تحولت ثورة الشعب هناك ضد النظام الحاكم إلى حرب أهلية ودموية بشعة، فككت الجيش النظامي وجعلته ينقسم على نفسه، وهنا حققت تل أبيب ما تصبو إليه بكل سهولة بالخلاص من خطر ثاني جيش عربي واجهها عام ١٩٧٣.
وإضافة إلى انخراط أبناء سوريا في حرب أهلية يبدو أنها لا نهاية لها، تم استثمار تلك الحرب من قبل بعض الفصائل الإسلامية المتشددة (داعش) في الإعلان عن قيام الخلافة الإسلامية على مساحات واسعة من أراضي سوريا والعراق.
حيث استغلت تلك العناصر المذابح التي نفذت بحق أبناء التيار الإسلامي -في بعض دول المنطقة ومنها مصر- الذين كانوا قد ارتضوا الخيار الديمقراطي، وقدمتها دليلا على فشل هذا الخيار.
إرهابية الإخوان
وترتب على ظهور "داعش" قيام تحالف دولي وإقليمي لمواجهتها في العراق وسوريا، ورأينا وفد الجنرال عبد الفتاح السيسي يصر في أحد الاجتماعات -التي عقدها هذا التحالف- على ضرورة أن يقر هذا التحالف بأن جماعة الإخوان المسلمين إرهابية، ويتعامل معها مثل داعش.
وفي هذه الحالة لو كان أعضاء هذا التحالف أعلنوا بوضوح أن جماعة الإخوان إرهابية -سعياً وراء ما كان يصبو إليه الوفد المصري في هذا الاجتماع- لاختلط الحابل بالنابل، وتنامى العنف في المنطقة بشكل غير مسبوق.
ولذلك يطرح البعض الآن العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي تدور كلها حول: هل الإسلام دينا وحضارة هو المستهدف؟ والإجابة هنا لا يمكن التوصل إليها بسهولة، لا سيما أن الحركات الإسلامية ارتضت الاحتكام إلى صندوق الانتخابات والنظام الديمقراطي المتعارف عليه، وإقامة الدولة المدنية الحديثة.
لكن تلك الحركات الإسلامية فوجئت -عقب وصولها إلى الحكم- بمن يتهمونها بالإرهاب، وينقلبون عليها وينفذون بحق متظاهريها السلميين مذابح دموية متتالية لا تزال متواصلة.
والانقلاب الذي تعرضت له مصر يذكرنا بما واجهته حركة حماس في قطاع غزة عندما فازت في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية، وشكلت حكومة برئاسة السيد إسماعيل هنية وكيف تم إعلان الحرب عليها بعد ذلك. وأيضا ما حدث في الجزائر عندما فازت فصائل إسلامية في انتخابات برلمانية، وتدخل الجيش فعصف بتلك التجربة.
إذن من الواضح أن الغرب الأوروبي الأميركي لا يستهدف المسلمين وإنما يستهدف الإسلام بوصفه ديانة. ولذلك لا يريد أن يرى أي حركة سياسية تستند إلى الإسلام في الحكم، لكون ذلك يشكل خطرا على مصالحه، وواجب كل المخلصين أن يعملوا على محو هذا الاعتقاد من أذهان صانع القرار في أوروبا وأميركا.
المطلوب من واشنطن
ومن المهم أن نتوقف أمام تقرير لهيئة المعونة الأميركية لتبيان ما استثمرته واشنطن لتغيير عقيدة الجيش المصري، لكي يصل إلى مرحلة إعلان الحرب على قطاع واسع من المصريين.
يقول التقرير: "تقرر البيانات الرسمية الأميركية حصول مصر في الفترة ١٩٤٨-٢٠١٢ على إجمالي مساعدات قدره ٧١,٦ مليار دولار، منها 1.3 مليار دولار معونة عسكرية سنوية منذ 1987 وحتى الآن".
وهذه الأرقام الموثقة تعني أن الجيش المصري تلقى منذ ٢٨ عاما مضت -وبالتحديد منذ عام ١٩٨٧- ما يقارب ٤٠ مليار دولار مساعدات عسكرية. وتلك الأموال أنفقت على عمليات غسل مخ تسمى "تدريبا"، خضعت لها قيادات عسكرية مصرية في الولايات المتحدة الأميركية على أيدي ضباط أميركيين.
وتـُوج ذلك بتوقيع اتفاقيات تعاون إستراتيجي بين البلدين، لبناتها الحفاظ على سلام كامب ديفد، ومصالح واشنطن في المنطقة، والتعاون المشترك لحفظ الأمن. واحتكرت واشنطن -وفق الاتفاق- عمليات تسليح الجيش المصري لضمان السيطرة التامة على توجهاته.
إذن، يُخطئ تماما من يتصور أن ما تتعرض له مصر والمنطقة يتم بشكل اعتباطي، هذا أمر مدروس ومخطط له مسبقا، وتشارك فيه بقوة دول كبرى وتدعمه، معتقدة خطأ أن دعم الطغيان هو الحل للحفاظ على مصالحها، وأن الإسلام خطر عليها.
وبالتالي، تخطئ تلك الدول إن تصورت أن ما تصبو إليه سيحقق لها أو للمنطقة أي نوع من الاستقرار، في ظل تنامي موجات عداء غير مسبوقة ضد واشنطن وتل أبيب.
ولقد شاهدنا بوضوح -عندما قامت واشنطن بدعم الانقلاب الذي شهدته مصر- كيف تنامت معدلات العنف والتطرف في المنطقة بشكل غير مسبوق، وبرزت "داعش" وشقيقاتها بقوة، وباتت المصالح الأميركية على كف عفريت. وبالتالي، لا حل أمام واشنطن وما تمثله إلا الاعتراف بأن زمن الدكتاتورية والطغيان قد ولى، ولم يعد يصلح في هذا العصر.
إن السلام لا يفرض على الشعوب بالقوة وعبر إستراتيجية الدم. وقتل شعبنا العربي في مصر أو سوريا أو العراق لن يجعله أبدا يستسلم للطغاة، بل سيتسبب ذلك في تنامي إصراره على انتزاع حريته، وعندها ستكون له مع الولايات المتحدة وحلفائها كلمة أخرى.
صلاح بديوي
استراتيجية الدم 1318