صار جلياً أن الخطر الذي يواجه السلطة الحالية ومن بعدها البلاد كلها ليس صراعات قوى النفوذ القديمة منها أو الجديدة، وليس سيطرة جماعة أنصار الله على العاصمة وبعض المحافظات أو تمدد عناصر تنظيم القاعدة وأنشطتها التخريبية والإرهابية، وليس الدعوات الانفصالية أو الاحتجاجات المستمرة في الجنوب، أو الأوضاع الاقتصادية الهشة، التي تزداد تدهوراً يوماً بعد يوم.. بل إن الخطر الأكبر الذي يتهدد في العمق الاستقرار في البلاد على مختلف المستويات يتمثل في حالة الاسترخاء والطريقة التي تدار بها هذه البلاد، وكذا إصرار القائمين على الشأن العام على استنساخ المتاهات، التي أوصلت اليمن إلى حائط مسدود قادنا إلى المشهد الراهن، الذي تظهر فيه الدولة تسقط من داخل الدولة نفسها..
والمعروف أنه عندما تصبح فكرة الدولة مهددة بالانهيار فإن ذلك يعني انهيار الفكرة من أيدي حامليها.. أي فشل التجربة السياسية للمجموعات التي تقوم بإدارة الشأن العام.. كما أن من الواضح أنه وعندما يصبح القفز على سلطات الدولة أمراً بديهياً تكون المجموعة الحاكمة قد قطعت علاقاتها بالزمن، الذي وصلت فيه إلى كراسي الحكم.. ومن الجلي أيضاً أنه وعندما تصبح أسباب الاضطراب مصدراً للمساس بالهوية والوحدة الوطنية، فإن ذلك يعد مؤشراً على دخول الدولة مرحلة الموت السريري وفقدانها لوظيفتها، التي تقوم أصلاً على حماية المعايير الناظمة للسلم الأهلي وحفظ التوازن والتعايش بين مكونات المجتمع، والحيلولة دون انزلاق هذه المكونات في حروب أهلية تأتي على الأخضر واليابس.
لا أحد على الاطلاق يريد الإساءة أو التجني على من تولوا قيادة المرحلة الانتقالية، فلا مصلحة لأي غيور على بلاده ووطنه ويخشى على هذا الوطن من السقوط والضياع في نوبات العنف والفوضى الاساءة لمن تحملوا أعباء المسؤولية في مرحلة ملبدة بالغيوم والغموض، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال الصمت والسكوت على الأخطاء والخطايا التي أسهمت في الإبقاء على هذا البلد مأزوماً أو على حافة مفترق طرق، فهذا يدفع به إلى المجهول، وذاك إلى الضياع دون هوادة.. فقط لمجرد الابقاء على السلطة القائمة لأطول مدة ممكنة، وهو الهدف الذي انشغلت به هذه السلطة عن طريق إضعاف مراكز النفوذ السياسية والقبلية وبناء تحالفات جديدة تدين بالولاء لهذه السلطة وليس لغيرها، وتحت تأثير سياسة (فرق تسد) جرى إعادة إنتاج الأزمات من قبل تيار الاستئثار بالسلطة، والذي ظل يرى في أن ميزان القوى سيظل في مصلحته طالما بقيت البلاد في وضع استثنائي وتعذر انتقالها إلى فضاء الاستقرار.
كثير من المسؤولين يرفضون اليوم التحدث عن العيوب والنقائص التي اتسم بها أداء السلطة خلال الثلاث السنوات الماضية بدعوى أن الاختلالات التي يشكو منها الناس كانت موجودة من قبل مجيء هذه السلطة، وبالتالي فإن من الصعب التغلب على ركام هائل من المشكلات والمصاعب الموروثة منذ عشرات السنين بين يوم وليلة.. وتلك أسباب وجيهة ومنطقية، لكن ما هو غير منطقي محاولة البعض تبرير اخفاقات السلطة بالمؤامرات، التي تتعرض لها البلاد من الداخل والخارج، حيث وأن مثل هذه المؤامرات هي من ظلت تستهدفنا وتلاحقنا في كل المراحل، ومع ذلك فلا ينبغي جعل هذه المؤامرات شماعة نعلق عليها أخطاءنا أو نبرئ بها أنفسنا من الفشل أو عوامل القصور، التي كانت وراء الكوارث التي أحاقت بالبلاد ووحدته الوطنية خلال السنوات الأخيرة.. فلولا التأخير المتعمد في تنفيذ مخرجات الحوار، وبالذات ما يتصل منها بقضيتي الجنوب وصعدة لما وصلنا إلى المأزق الذي صارت تشعر به السلطة والمجتمع على حدٍ سواء.
وما من شك أن العديد من الاسئلة تتدافع بصورة أكبر كلما دخلنا الى التفاصيل، ومن ذلك النتائج المترتبة على تدويل الازمة اليمنية والذي كان للأسف الشديد بناء على رغبة وطلب نظام الحكم، وكذلك بعض القوى السياسية، حيث استعان الفريقان بالشيطان على حساب حاضر ومستقبل اليمن، متناسين أن لا أحد يقدم العون مجاناً وإنما وفقاً لما يخدم مصالحه، لذلك فقد كان الخاسر الأكبر، إن لم يكن الوحيد، من هذا التدويل هو اليمن وشعبه، واللوم الرئيسي يقع هنا على السلطة، التي تمتلك مقدرات الدفاع عن السيادة، ومع ذلك فإنها التي لم تتصرف بطريقة مسؤولة حتى تفاجأت أخيراً أن من سلمت لهم مقاليد اقتراح موضوعات الحوار ومحددات مستقبل اليمن وجعلت منهم أوصياء على هذا الشعب، هم من يلوحون اليوم بمعاقبته، لكونه اصبح في نظرهم مصدراً للإرهاب وليس ضحية له.
لقد عمدت السلطة بقصد أو دون قصد إلى استغلال علاقاتها الدولية من أجل تعزيز وضعها وقدراتها عوضاً عن العمل على انقاذ اليمن، لكونها من اعتبرت سلامة النظام هي سلامة الوطن، وليس العكس، وقد يكون هذا النمط من التفكير وراء موقف العديدين في توجيه اللوم لنظام الحكم، باعتباره أكثر قدرة على العمل بما فيه مصلحة الوطن وعلى انتهاج سياسة تهدف إلى تلبية مطالب الشعب أو على الاقل مقابلتها في منتصف الطريق؛ وهو الأمر الذي لو حصل لأنقذ اليمن من الخراب والدمار، الذي شهدته خلال الأعوام الثلاثة وما زالت.
نحن لا ننطلق من محاولات اللوم للسلطة الحالية وتحميلها مسؤولية ما حصل ويحصل من انهيارات للدولة، ولكن ننطلق من الاقرار بأن مطالب الشعب كانت متناقضة ربما مع مطالب وتوجهات السلطة، وهو ما يدفع بنا إلى القول في هذه اللحظة الحرجة بأن من مصلحة هذه السلطة إذا ما أرادت استعادت الثقة الضائعة أن تسعى إلى ايجاد معادلة تسمح بالتوصل الى حل وسط، مع الاقرار بأن الاولوية يجب أن تكون لمطالب الشعب وليس ما تريده السلطة، خصوصاً وهي من تبدو اليوم دون ظهير شعبي حقيقي بعد أن تراجعت مساحات التأييد لها بفعل الازمات الكثيرة، التي تطحن الناس وتعكر صفو حياتهم مع أنه كان من المفترض على الفريق، الذي يسهر على تدبير شأن الدولة أن يكرس كل جهوده من أجل توحيد الجبهة الداخلية عبر مصالحة وطنية بين كل القوى المتصارعة والمتناحرة بدلاً من الوقوع في شرك فئة لم تدرك بعد أن الانفراد في تطبيق ما تراه من أجل كسب المزيد من الوقت أصبح بمثابة عود ثقاب تدنو بالواقع الوطني إلى كومة بارود قابلة للاشتعال في أي لحظة، خاصة بعد أن انتقل الصراع الداخلي وبجدارة محزنة إلى صراع اقليمي ودولي في اليمن، وعلى اليمن على الرغم من أن ضحايا هذا الصراع هم يمنيون والأرض التي تعاني منه هي يمنية..!
وبعد كل ذلك فماذا تبقى ويستحق ان يتصارع اليمنيون عليه ومن أجله بعد أن أضعنا كل شيء، وبعد أن اختلطت الرؤى وصارت البلاد رهينة لسلطة تراهن على ذاكرة الشعب الضعيفة وتركيزه المنعدم؟!
علي ناجي الرعوي
رعونة السلطة.. واللعب مع الشياطين! 2142