إن من أهم ما يميز ديننا الإسلامي عن باقي الشرائع والأديان أنه دين تعايش ووئام، انطلاقا من كون الاختلاف في الفهوم والرؤى والأفكار وارد، وهي سنة الله في خلقه، حيث لم يخلقهم نسخة واحدة متطابقة، مع قدرته سبحانه على ذلك ولكن جعلهم أفراداً وشعوباً وقبائل شتى، بفهوم وأفكار وآراء وقناعات مختلفة، ليتحقق على إثر الاختلاف الحادث بينهم والذي بينه رب العزة والجلال في محكم التنزيل بقوله:( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)هود) المقصد الذي لأجله بعث الله الرسل بالحجج والمعجزات( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) وليتحقق على إثر الاختلاف الذي فطر الله الناس عليه سنة من أعظم السنن الإلهية ألا وهي سنة التسخير، التي على إثرها يٌسَخَرٌ بعضنا لبعض لتتحرك عجلة الحياة، مصداقا لقول الله تعالى:( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)الزخرف) ولما كانت هذه بعض مقاصد الاختلاف، كان لابد من التعاطي مع الاختلاف الحادث بين الناس داخل الدولة الواحدة في أجواء تسودها روح التعايش القائم على احترام المخالف والقبول به بغية حقن الدماء وتحقيق الشراكة الفاعلة في البناء والنهوض بالوطن، إذ لا يمكن أن يٌبنى وطن بغير شراكة حقيقية وفاعلة بين كافة أبنائه، ورحم الله محمد رشيد رضا الذي أرسى أعظم قاعدة في التعايش والشراكة نصت على أنه "يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"
إننا- خصوصا بعد إنجاز مؤتمر الحوار الوطني والاحتفاء بمخرجاته، وبعد توقيع فرقاء السياسة على وثيقة للسلم والشراكة- أحوج ما نكون لإرساء دعائم قاعدة محمد رشيد رضا في التعايش، بين أوساط المجتمع السياسية والاجتماعية والعلمية والثقافية، لكونها أبلغ تلخيص لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، والمتمثل بإبرام وثيقة المدينة التي جمعت كل مكونات مجتمع المدينة المنورة، من يهود، وأوس، وخزرج كانت رحى الحروب بينهم قائمة، وقبائل أخرى كانت مجاورة للمدينة، حيث كان هدف الوثيقة التي مثلت أول دستور يٌعمل به في المدينة، حماية السلم الاجتماعي الذي شكل بعد ذلك قاعدة الأمة الإسلامية المقبلة، وهو ما جعل حتى أعداء الإسلام يشهدون للنبي صلى الله عليه وسلم بعبقريته الفذة، فهذا مونتجمري في كتابه محمد في المدينة والذي وقف من خلاله على وثيقة المدينة التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وكانت المشكلة الأولى هي استتباب السلم بين مختلف قبائل المدينة، وكانت هذه المشكلة ليست في المدينة فقط بل في شبه الجزيرة العربية بكاملها ولما نجح محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إقامة « السلم الإسلامي » في المدينة مع القبائل المجاورة، أرادت قبائل أخرى أن تستفيد من النظام الجديد، ولم يعارض محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جهته امتداد نظام السلامة الذي أقامه إذا كانت الترتيبات التفصيلية مرضية، فإن امتداده يؤدي إلى قدر كبير من السلامة، ولك أن تتخيل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه يتوسع بالأمة الإسلامية بجموع المعتنقين للإسلام وجموع من لم يعتنقوا الإسلام لكنهم رغبوا في أن تشملهم وثيقة السلم الاجتماعي الإسلامي، فاستطاع محمد ـ صلى الله عليه سلم ـ بعد إقامته للسلم في جزء كبير من شبه الجزيرة العربية أن يبني أول دولة إسلامية وأن يٌوجِه غرائز الغزو لدى العرب نحو الخارج، نحو المجتمعات المجاورة لشبه الجزيرة العربية) انتهى كلامه.
وهنا كان لا بد علينا أن نعي ونحن نقف على وثيقة السلم الاجتماعي التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، أن بناء اليمن الذي نريده لا يمكن أن يتم إلا على الالتزام بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني التي أجمع عليها كل فرقاء السياسة، مع الإيمان بضرورة التعايش المٌؤَسَسَ على أسس السلم والشراكة، لضمان نزع فتيل التوترات بين أبناء الوطن الواحد بصورة تٌحقن على إثرها الدماء وتٌصان بموجبها الأعراض وتحفظ الممتلكات العامة والخاصة، وتٌفرض على إثرها هيبة الدولة وتُبسط سيادتها على كامل التراب الوطني، ليتجه الجميع صوب البناء والتنمية، إذ بغير فرض هيبة الدولة وبسط سيادتها لا يمكن أن يتحقق الأمن، الذي يٌعد دعامة أساسية من دعائم الاستقرار والبناء والتنمية وصدق ربنا الذي بين نعمته على قريش حين أمرهم بعبادته شكراً على نعمة تأمينه لهم من الخوف بإحلاله للسلم والتعايش بينهم حتى صار إطعامه لهم من الجوع ثمرة تالية لنعمة الأمن الذي بسطه عليهم، فقال جل شأنه:(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قريش).
إنه مادامت جهود الجميع اليوم تتجه صوب التأسيس لمستقبل مفعم بالشراكة والتعايش اللذين لن يصبا بإذن الله إلا في مصب بناء هذا الوطن، فإن المنطق السليم يتطلب من الجميع الاضطلاع بالمسؤولية الوطنية للتوجه بفاعلية ومصداقية نحو إنجاز ما تم الاتفاق عليه، كل حسب ما ألتزم وأٌلزم به، مع ضرورة الإسهام في خلق بيئة تعايش حقيقية، تضطلع فيها كل الأحزاب والجماعات والمكونات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والإعلام الرسمي والحزبي والمستقل وكافة المنابر الخطابية بمسؤولياتها في توعيه المجتمع توعيه تؤسس للتعايش ونبذ العنف وتحقق الشراكة في البناء والنهوض بهذا البلد، فإننا ما لم نساعد أنفسنا لن يساعدنا الآخرون، فالوطن مِلكنا جميعا وحمايته سلمه وأمنه الاجتماعي وحفظ سيادته مسؤوليتنا جميعا، فإن نحن تخلينا عن مسؤولياتنا فإن الهلاك المحقق سيعمنا جميعا مصداقا لقول حبيبنا صلى الله عليه وسلم حين قال: «مِثْلَ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا»
والله نسأل أن يحفظ اليمن وأهله وأن يؤلف بين قلوبنا في هذا البلد وأن يجمع كلمتنا ويوحد صفنا إنه نعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...
نجيب أحمد المظفر
نحو تعايش يٌؤسس لسلام مجتمعي..!! 1543