منذ القديم ونحن نسمع مقولة: الجماعة رحمة ..
والشيطان أقرب ما يكون من الإنسان وهو فرد..
وأن الإنسان قوي بجماعته, ضعيف بنفسه..
ومثل هذا كثير..!
واليوم- وبعد كل ما رأيناه وعانيناه من شطط بعض الجماعات ونزقها الذي أثقلت به كاهل مجتمعاتها وما تسببت به من فتن ومحن وجرائم شنيعة وأوزار حمّلتها لدين السماحة والرحمة- لابد لنا من وقفة لمراجعة مدى صحة هذا المفهوم وماذا يراد بمسمى الجماعة؟!
الجماعة في تراثنا الإسلامي لها مفهوم راق وزكي, وليس له علاقة بالجماعات من الناس التي تتآلف وتجتمع حول أهدف شتى..!
كتب د. لوبون- وهو أحد مؤسسي علم الاجتماع- عن صفات "الجماعات" قبل ظهور أيّ واحدة من هذه الجماعات, التي تضج بأخبارها وكالات الأنباء, وكان ذلك في منتصف القرن التاسع عشر للميلاد, وطلع بنتائج لدراساته حول الجماعات تسهم في فك شفرات الكثير من طلاسم وسحر قوة تأثير الجماعات في أفرادها!
استنتاجات تجعلنا نفهم لماذا يقدم الرجل الحازم العاقل والمثقف والمتعلم على ارتكاب الفعل الشنيع حينما يصبح فردا في إحدى صنوف هذه الجماعات, الذي تدفعه لمثل هذه الأفعال؟!
في الواقع أن " لوبون " وصل لنتائج غاية في الخطورة؛ ربما أن القائمين على الجماعات المتطرفة قد استعانوا بهذه النتائج في تسيير الأفراد وقيادتهم بسلاسة, وتوجيههم نحو الهدف بغاية السهولة..!
أول ما أحبذ إيراده هو النتيجة الرئيسية:
يعيب "لوبون" على المفكرين اهتمامهم بالجماعات الإجرامية فحسب؛ لأن الجماعات- وإن كانت مجرمة في أوقات كثيرة- فهي ذات بطولة في أوقات كثيرة أخرى..!
ويؤكد بأن الجماعات يمكن أن تكون أكثر من الفرد خيرا, أو شرا, طبقا لنوع التلقين الذي يصدر إليها من قادتها أو من أفرادها!
أورد ذلك حتى أذاب جدار الرفض الذي قد يعلو أمام ما سيقال بعده؛ خاصة وأن الواقع الذي نعيشه كل يوم يصدق كل ما سيقال..!
كلنا تساءل مراراً:
كيف يقتل هذا المتطرف نفسه وسط الجموع متحملاً وزرها, ووزر كل هؤلاء الضحايا؟
كيف يزهقون أرواح الأبرياء بدم بارد, وضمير ميت..؟ كيف أحرقوا الرجل في قفص حديدي كأنه صرصار؟!
كيف يقدمون على فعل كل هذه الجرائم بقوة وبإصرار, وجرأة منقطعة النظير..؟!
وشاع بين الناس " أنهم يجرعونهم حبوبا مخدرة قبل الخروج لمثل هذه العمليات.. يسيرونهم تحت تأثير التنويم المغناطيسي".. !!
لكن الحقيقة أنهم ليسوا بحاجة لنوع مخدر أو تنويم مغناطيسي!
يقول "لوبون": يصبح الفرد في الجماعة غير شاعر بأفعاله تماما, مثل الشخص الذي يجري تنويمه مغناطيسيا!
ويؤكد بأن الإيحاء والتلقين هما أسلوب التنويم في الجماعات, وأن الفرد يتلاشى شعوره بفرديته, وينصهر في بوتقة الجماعة ويندفع في إنجاز أهداف الجماعة, ولا يقدر على مواجهته أحد, موضحا بأنه في الجماعة وبفضل العدوى النفسية يُمنح قوة لا تُقهر!
أما لماذا لا يشعر بوجع الضمير؟!
الإجابة: لأن الفرد في الجماعة "خاصة ذات التلقين الشرير" يذعن لغرائز كان يردعها مكرها وهو منفرد, أو يذعن الفرد في الجماعة طوعاًَ لتلك الغرائز نتيجة لزوال شعوره بالمسؤولية, لأن المسؤولية غير واضحة داخل الجماعة!!
وتكمن خطورة الجماعات "ذات التلقين العنيف والشرير" في أن الفرق يتلاشى نهائيا, آو في الغالب, أو يصبح ضئيلا إلى حد ما, بين أفراد الجماعة؛ فالمثقف والجاهل في "الخلق والمعتقدات" سواء!
ويتساوى العالم والأبله في الجماعة!
ثم يقول: بأن أخلاق الجماعات تكون أحط من أخلاق أعضائها بحسب التلقين..!
ويوضح سر قوة زعماء الجماعات قائلا:
زعماء الجماعات يستغلون السمة الأبرز في الجماعة "العدوى النفسية" وبممارسة التوكيد والتكرار؛ لتحريك أفرادهم نحو الهدف بسلوك مسلك الاستهواء والمحرضات.!
فعلى كل إنسان أن يفكر مليون مرة, قبل أن ينضم لأية جماعة, وينظر ملياً فيما يلقنوه لأفرادهم؛ لأنه بمجر انضمامه إليهم سيصبح نسخة كربونية, تشبه كل أحد منهم, حتى أقلهم علما وفهما وأخلاقا..!!
وليعي أن المسؤولية الفردية لن تنتقل عن عاتقه للجماعة يوم الحساب..
قال تعالى: وكلهم آتيه يوم القيامة فردا..!
نبيلة الوليدي
الجماعة ليست رحمة..!! 1087