الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة عدن أواخر الأسبوع الماضي، والأعمال الإجرامية التي شهدتها لحج بعد المواجهات المسلحة بين ما يسمى مليشيات اللجان الشعبية المسلحة بمساندة بعض وحدات الجيش، وبين قوات الأمن الخاصة التي استشهد وذبح وجرح الكثير من أفرادها، ما كان يجب أن تحدث، لو كان هناك بقية عقل وحكمة، حيث كان من الممكن احتواء المشكلة ومعالجة الموقف بحكمة وبروح المسؤولية الوطنية، لأن الجميع يمنيون وأبناء وطن واحد، فالقاتل يمني والمقتول يمني، ويبدو أنه في لحظة المواجهات غاب الإدراك بأن "معظم النار من مستصغر الشرر" ناهيك عن الآثار النفسية المدمرة التي ستتركها تلك الأعمال والمواجهات، وما خلفته من فوضى وأعمال عنف مارستها العناصر الإرهابية المسلحة، وما حدث بعد ذلك من نهب للممتلكات العامة والخاصة واقتحام المنازل وتدمير المنشآت والمرافق بعدن، ثم الإقدام على ذبح الجنود الجرحى في مستشفى ابن خلدون وذبح منتسبي بعض الأجهزة الأمنية بصورة وحشية وإحراق المجمع القضائي ونهب البنوك وإشاعة الخوف والرعب في مدينة الحوطة بلحج.
ما يجب إدراكه بأن اليمن لم يعد قادرا على تحمل المزيد من المآسي والكوارث والدمار وإزهاق الأنفس البريئة وسفك دماء اليمنيين وإهدار مقدرات الوطن، صحيح أن تمرداً أو رفضاً لقرار رئاسي كان هو السبب الواضح للاستخدام المفرط للقوة التي شملت الدبابات والمدرعات ضد منتسبي قوات الأمن الخاصة بعدن، محدودة العدد والعتاد، بحجة القضاء على ما زعم بأنه انقلاب بحسب وصف البيان الرئاسي، وبالمقابل فإن المخاطرة باستخدام الطيران الحربي لقصف المقر الرئاسي بعدن أمر في غاية الخطورة وفعل غير مبرر، غير أن السبب المستور من وراء ذلك ليس قمع التمرد، وإنما التعبير عن إرادة الأطراف المتنازعة والمتصارعة على الساحة اليمنية لتمزيق عرى الوحدة الوطنية، وقد تجلى ذلك في بشاعة تعامل ما سمي باللجان الشعبية مع إخوانهم العسكريين من أبناء المحافظات الشمالية، وما سبقه من فرز مناطقي مقيت وخطير ستكون له نتائجه الوخيمة وتداعياته الكارثية على النسيج الوطني الاجتماعي؛ لأن قوات الأمن الخاصة كما هي بقية وحدات القوات المسلحة والأمن تمثل رمزاً لقوة الوحدة الوطنية، وإن استهداف أي وحدة أو هيئة عسكرية أو مدنية من منظور مناطقي يعني أن مخطط تمزيق اليمن والقضاء على الوحدة يسير بخطى متسارعة، وأن البلاد تتجه نحو صراعات وحروب ستدمر ما بقي من كيان الوطن، وستورث أحقاداً وضغائن وكراهية عميقة بين أبناء الوطن الواحد.
تداعيات الوضع اليمني الراهن تعتبر الأكثر خطراً وتعقيداً من أي وقت مضى، وكذلك هي احتمالات تداعياته على الأمن الإقليمي والدولي، وتدارك هذا الوضع الكارثي مسؤولية كل اليمنيين دون استثناء، لكنّ قطبي الصراع المتنازعيْ الهيمنة على الشرعية والسلطة في صنعاء وعدن مسؤولان مسؤولية مباشرة أمام الله سبحانه وتعالى وأمام الشعب والتاريخ عما سيؤول إليه مصير اليمن؛ فإبمكانهما أن يكونا، إما بوابة الوطن إلى الحروب والكوارث والقتل والدمار، وإما صمام أمان أمام مختلف العواصف والمحن، فالسلطة والشرعية اللتان يدعيهما كل طرف لنفسه هما قبل كل شيء مسؤولية دينية ووطنية وأخلاقية وتاريخية، وأبرز محددات هذه المسؤولية يتمثل اليوم في استشعار مخاطر اللحظة التاريخية في ظل استقطابات عصبوية ما دون الوطنية وتجاذبات غير ديمقراطية وغير سليمة، والتعاطي معها بحكمة إيمانية ومسؤولية وطنية، ومصداقية مع الوطن ومع الذات ومع الآخر ومع الشعب.
الحكمة تقتضي نبذ العنف ووقف التصعيد السياسي والإجراءات الأحادية التبادلية والتي ترسخ واقع التشظي والانقسام السائد وتحوله من ظاهرة أزموية استثنائية طارئة، إلى حقيقة واقعية معاشة تحمل في أحشائها سيناريوهات مأساوية لا يمكن تفاديها ولا يمكن التنبؤ بمآلاتها وكوارثها.. فما نحتاجه اليوم هو الحوار المسؤول والجاد، للوصول إلى اتفاق وطني جامع حول خارطة طريق واضحة تتحدد أولوياتها في احتواء وتجاوز المخاطر المحدقة، وتجنيب الوطن احتمالات الحرب الأهلية والتشظي، وترسم مسارات واضحة محددة أهدافها وإطارها الزمني وضماناتها لإنجاز ما تبقى من استحقاقات المرحلة الانتقالية، والعبور الآمن بالوطن نحو المستقبل عبر تهيئة البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية والتشريعية الحاضنة والضامنة لانتخابات تشريعية ورئاسية سليمة وناجحة تطوي ملف المرحلة الانتقالية وصراعاتها حول السلطة، وتدشن البداية الحقيقية لمرحلة جديدة تلجها كافة الأحزاب والتيارات عبر بوابة الاختبار الحقيقي لمدى أهلية واقتدار وجماهيرية كل طرف في الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع.
عن صحيفة الرياض
على حسن الشاطر
للخروج باليمن إلى بر الأمان!! 1864