شهدت مصر منذ أيام تعديلا جديدا للمناهج الدراسية تم بمقتضاه حذف درس عن القائد صلاح الدين الأيوبي للصف الخامس الابتدائي، وستة فصول من درس القائد عقبة بن نافع للصف الأول الإعدادي بدعوى أنهما "يحثان على العنف والتطرف".
بالطبع هناك مشكلة في مناهجنا ومؤسساتنا التعليمية، وهي مشكلة متعددة الأبعاد، أهمها غياب الرؤية الجامعة للدولة، وغياب الإستراتيجيات العلمية المتكاملة والكفيلة بتطبيق هذه الإستراتيجيات، بجانب ضعف المناهج وطرق التدريس، وتدني كفاءة المعلمين وغياب القدوة، وقلة الإمكانات، وغير ذلك.
لكن ما علاقة ما يتم تحت عنوان "التطوير" بهذه المشكلات؟ وما علاقته بمقومات هويتنا العربية والإسلامية الجامعة؟
فيما يلي بعض الأسئلة والإجابات التي قد تساعد في فهم الصورة الكلية التي ينبغي على المسؤولين والتربويين إدراكها، وقد تساعد أيضا في إيضاح أبجديات هويتنا لأجيال كاملة تم تغييبها ولا تستمع لأي حديث عن الهوية.
أولا: هل من علاقة بين ما يتم باسم "تطوير المناهج" وجوهر مشكلة التعليم بأبعادها المختلفة؟
لا علاقة بين الأمرين. فما يتم باسم التطوير لا يتم ضمن رؤية محددة ومعلنة للدولة ولا طبقا لإستراتيجية علمية مدروسة. وحقيقة الأمر أن ما يتم تحت مسمى "التطوير" يعد حلقة واحدة في سلسلة طويلة من عمليات تسمى زورا تطويران، وهي في حقيقتها عملية هدم لمقومات الهوية تتم منذ عقود طويلة في مصر وفي غيرها من الدول العربية والإسلامية.
فاللغة العربية تتعرض لتراجع كبير دفع اليونيسكو إلى إدراجها ضمن اللغات المعرضة للانقراض. أما الإسلام فهو يحارب في كل مكان، وفي دول كثيرة في وسط آسيا وأفريقيا يكاد الإسلام يختفي بالكامل.
ثانيا: كيف يؤثر هذا التطوير على هويتنا العربية والإسلامية؟
ما يتم الآن باسم "التطوير" يسهم في عملية الهدم التدريجي لهوية الأمة وثقافتها وقيمها من خلال وسائل متعددة منها تقليص المحتوى الديني وتشويه التاريخ وغياب القدوة وعدم الاعتزاز بقيمنا ورموزنا. وتعديل المناهج بهذا الشكل المشوه يمثل أسلوبا واحدا فقط من أساليب هدم الهوية وطمسها.
فهناك التبعية الفكرية والغزو الثقافي، وهناك التعليم الأجنبي، وتعدد أنظمة التعليم على نحو لا مثيل له في معظم دول العالم. وهناك الإعلام ورسالته الهدامة وغير ذلك.
وعملية الهدم بأساليبها المختلفة تمثل بعدا واحدا في إستراتيجية أكبر، فبعد الاستعمار العسكري ونهب الثروات بشكل مباشر جاءت سياسة الهيمنة والتبعية والسيطرة على الثروات بشكل غير مباشر.
وبالتوازي مع هذا وذاك استمرت عملية محاربة الهوية كعملية ممتدة زمنيا ومتدرجة وتتم على يد أبناء الوطن أنفسهم. وصارت منذ ما تسمى الحرب على الإرهاب تتم باسم محاربة التطرف والتشدد.
وخطورة هذه العملية تكمن في أنه لا يمكن الشعور بنتائجها السلبية في الحال. ولديّ يقين أن الكثير من الذين يعملون في هذا "التطوير" لا يدركون خطورة ما يقومون به.
ثالثا: من المسؤول عن ما يحدث من استهداف وهدم لهويتنا الجامعة؟
تتحمل الحكومات والنخب المسيطرة المسؤولية الأولى عن هذا الاستهداف والهدم. فللأسف حكوماتنا -التي لا تمتلك أي رؤى حقيقية للحكم والنهوض- غير قادرة على (أو غير راغبة في) فهم الصورة الكلية التي يمر بها عالمنا العربي، وغير قادرة على الفكاك من المغالطات والأساطير التي يصدرها لنا الغرب التي تروج أن السبب الأساسي للتخلف هو الإسلام ذاته وأن التاريخ الإسلامي مليء بالعنف، وأنه لا أمل في التخلص من التخلف إلا باللحاق بالحداثة الغربية.
هذه أساطير ومغالطات، فالعنف الذي يشهده العرب الآن سببه عنف الحكام وقمعهم للحريات والحقوق، وسببه أيضا سياسات الغرب ومعاييره المزدوجة تجاه قضايانا العادلة. وظهور الحركات المتطرفة نتيجة طبيعية لسياق سياسي واجتماعي متخلف ونتيجة منطقية لنظم سياسية وتربوية وتعليمية وإعلامية بالية وهدامة ومن صنع الحكام في الأساس.
رابعا: هل يمثل الإسلام الآن عقبة أمام التقدم والحداثة؟
مثل الإسلام مقوما رئيسيا من مقومات الحضارة العربية والإسلامية التي ازدهرت لمئات السنين، وقيم الإسلام لا تتعارض في الواقع مع القيم التي تنسب اليوم حصرا إلى الحداثة الغربية كالتسامح والحرية والعدالة والشفافية.
أما التناقض الذي يتصوره البعض بين الإسلام والتقدم فهو في الأساس تناقض بين رغبة الحكام في السيطرة والهيمنة وبين قيم العدالة والحرية واحترام كرامة الناس، وهو أيضا تناقض بين من يتطرف في فهم الإسلام أو من يستخدمه لتحقيق مكاسب سياسية وبين حقيقة الإسلام بقيمه المتسامحة والعادلة.
ويجب أن لا نتجاهل حقيقة أنه تحت حكام ما بعد الاستقلال تسود ممارسات الاستبداد والظلم والمحسوبية والفساد وتتسع الفجوات بين الفقراء والأغنياء ولا تحترم كرامة الإنسان وحرياته، وهذه كلها تتعارض مع أبجديات الإسلام.
خامسا: لماذا تندلع الحروب والفتن بين العرب الآن؟ وهل مرت شعوب أخرى بمثل ما نمر به؟
العرب ليسوا بدعا من البشر، وما يمر به العرب والمسلمون من صراعات -كما كتبت في مقال سابق- هو حصاد عقود طويلة من سياسات وممارسات واختيارات الحكام والنخب النافذة وليس نتيجة آيات الجهاد بالقرآن الكريم ولا صفحات تاريخنا المجيد بما فيه من سلم وحرب، ولا هو يعكس مشكلة في الجينات العربية كما يرى البعض. وهذه الصراعات تمثل في ذات الوقت مرحلة من مراحل التغيير التاريخي التي تمر بها المنطقة وضرورة من ضرورات الخروج من هذا العصر الأسود.
والثورات التي تشهدها المنطقة لن تغير الأحوال في شهور معدودة كما يعتقد البعض، فهي عملية صعبة وممتدة زمنيا وقد ينتج عنها الكثير من المسارات. والثورات كغيرها من العمليات الاجتماعية الأخرى تمثل مرحلة واحدة من مراحل التغيير والخلاص.
وما نحن فيه يمثل سنة كونية تمر بها كافة الشعوب الأخرى. فتطور المجتمعات وتغير الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية عادة يرتبط بسياق اجتماعي وسياسي أوسع، ويمر بجملة من الصراعات الممتدة التي تنتج عنها في النهاية أشكال جديدة من المجتمعات والأنظمة.
وتاريخ أوروبا القريب فيه الكثير من الدروس والعبر، فخروج أوروبا من عصور الظلام جاء أولا نتيجة سلسلة طويلة من الصراعات الدموية بين الملوك المطلقين والكنيسة الكاثوليكية في وقت كانت فيه أوروبا منقسمة إلى نحو 500 دولة عام 1500، ثم كان صراع اللوردات والأرستقراطيين مع الملوك، ثم بين الكاثوليكية والبروتستانتية، ثم صراع الملوك والأمراء مع البارونات والأمراء المحليين، هذا بجانب ما شهدته أوروبا من حروب وحركات تمرد وثورات.
سادسا: لماذا لا نجرب الحلول الأوروبية لمعالجة صراعاتنا الحالية؟
استيراد الملوك من الآخرين بلا وعي وتدبر يعمق مشكلاتنا في الأساس. فمن الأخطاء التي يرتكبها الكثير من الغربيين وبعض العرب أيضا خطأ تجاوز سنن هذا التطور التاريخي وخصوصية الحلول الأوروبية التي ترتبط بالسياق الاجتماعي والسياسي والتاريخي والديني للمجتمعات الأوروبية، ومحاولة فرض الحلول الغربية على العرب دون أدنى اعتبار للسياق الحالي ولا أسباب المشكلات التي تعيشها الشعوب العربية والإسلامية منذ عقود.
وهناك مشكلة أساسية في هذا السياق وهي انطلاق هذه الحلول من الادعاء الذي انتهى إليه صموئيل هنتنغتون عندما كتب صراحة أن سبب تخلف المسلمين هو الإسلام ذاته، واضعا بذلك نظرية لا تزال الكثير من دوائر الحكم والإعلام الغربية وفيّة لها.
سابعا: ألا تعتمد النهضة على الإمكانات المادية فقط؟ وما علاقة الهوية بالنهضة؟
نهضة الأمم لا تتوقف فقط على توفر الموارد والعوامل المادية، فهناك عوامل أخرى غير مادية، كالتمسك بالهوية والإرادة السياسية ونوعية القيادة والمهارات السياسية وقوة المجتمع الداخلي.
وفي عالمنا العربي هناك الكثير من عوامل القوة المادية (الثروات الطبيعية والبشرية) التي تكفي ليحتل مكانة غير تلك الذي يحتلها الآن في الساحة الدولية وذلك بشرط توفر عوامل أخرى، أهمها عامل الهوية الذي يقوم بوظائف مختلفة، أولاها جمع الأمة وإنقاذها من فرقتها، أي عدم استخدام الهوية، كما يتم الآن في أكثر من بلد عربي، لإقصاء المخالفين في الرأي والمعارضين. فالهُوية الجامعة لا تعني القضاء على الاختلافات اللغوية والعرقية والمذهبية، بل على العكس فهي تساعد في التعامل مع التنوع السكاني وتحويله إلى عامل تنوع وقوة.
والهُوية الجامعة هي الأساس الثقافي واللبنة الأولى لوحدة الكيان السياسي لكل قطر عربي وللأمة العربية والإسلامية ككل، ومن دونها لا يمكن تصور وجود مصالح سياسية مشتركة تجمع الشعوب التي قسمها المستعمر وزرع حدودا مصطنعة بينها. لقد كان من الضروري وجود هُوية قومية جامعة تجمع الألمان وتجمع الإيطاليين حتى يمكنهم بعد ذلك الاتحاد بعد أن فرقتهم السياسة إلى دويلات وإمارات عدة.
والهُوية أيضا هي الساتر الأساسي أمام الغزو الثقافي. فالعروبة -كمقوم أساسي من مقومات الهُوية- هي، بمقوميْها اللغة العربية والثقافة العربية، الهوية الثقافية الجامعة لكل العرب، وليست مواقف وممارسات سياسية معينة تُنسب إلى فئة من الناس دون غيرها. وهي الإطار الثقافي والاجتماعي اللازم لحماية الوحدة الوطنية لكل بلد عربي، وصدّ الانقسامات التي قد تفرز اضطرابات وحروبا أهلية، كما أنها السياج الحامي للبلدان العربية أمام طغيان النزعات المادية ومحاولات فرض ثقافة معينة على كل أمم الأرض وشعوبها.
ثامنا: ألا يشكل إقحام الإسلام في موضوع الهوية وفي الشأن العام مقدمة للتمييز بين الناس على أساس الدين؟
لا، لأن الهوية العربية الإسلامية هُوية غير عنصرية. والإسلام -باعتباره مقوما أساسيا من مقومات هذه الهوية وإطارا حضاريا وليس دينا- يمثل الوعاء الذي أَخرج الوطنية والعروبة من محاور القبيلة واللون والعرق والمكانة الاجتماعية إلى رحاب الانتماء الثقافي والحضاري الواحد الذي أرسى دعائمه عرب الجزيرة العربية المسلمون، ثم ساهم فيه مسلمون غير عرب من الفرس والأكراد والأتراك والبربر، ومسيحيون ويهود عرب وغير عرب.
وهذا الانتماء العربي الإسلامي هو الذي شيد حضارة زاهرة، امتدت من الصين إلى الأندلس، وقدمت للبشرية نماذج ساطعة من التعايش بين شعوب تميزت بتنوع عنصرها البشري، وتعدد لغاتها ولهجاتها، واختلاف ثقافاتها وتقاليدها، فضلا عن الكثير من المنجزات العلمية والفكرية والأدبية. هذا الإسلام لا يمكن تجاوزه في بناء الهُوية وفي عمليات النهضة.
تاسعا: وكيف سيسهم التمسك بالهوية في تطوير المناهج وفي معالجة صراعاتنا المختلفة؟
إن دعم المقومات الرئيسية للهوية الجامعة بمعانيها السابقة من المستلزمات الضرورية لأي عملية إصلاح وتطوير لكافة المؤسسات التعليمية والفكرية، ولزرع القيم اللازمة في وجدان الطلاب لتجاوز الانقسامات والصراعات المذهبية والعرقية والثقافية.
كما أن تعزيز الهوية يمثل داعما قويا لظهور نسق قيمي حضاري لدى الطلاب يكون قادرا على الوقوف أمام محاولات الغزو الثقافي وسياسات الهيمنة الثقافية التي يمارسها الغرب. ويساعد أيضا في تعزيز عمليات التنمية بكافة أوجهها السياسية والاجتماعية والبشرية والاقتصادية. فالنهضة لا تأتي بالتقليد والتغريب، بل بوضع الإستراتيجيات والأهداف استنادا إلى إطار ثقافي مستمد من هُوية المجتمع الجامعة ومن تراثه وواقعه الحضاري.
الجزيرة
عبد الفتاح ماضي
تعديل المناهج وأسئلة الهوية 2054