التصالح والتسامح مسألة لا تقررها الرغبات التي تتجسد كحاجة لحظية لدى هذا الفريق أو ذاك من الناس وإنما هي حاجة موضوعية تشتد حاجة المجتمع إليها عندما يصبح لزاماً على كل الأطراف الفاعلة في أي مجتمع أن تقرأ حاجة مجتمعها وتعمل بإخلاص على إعداد هذا المجتمع للتخلص من كل ما تراكم فيه من معوقات النهوض والتطور .
لا يتقرر السير في هذا الطريق بقاعدة التجربة والخطأ أو بشروط انتقائية ولكن بصورة يكون فيها الجميع قد حسموا أمرهم وفقاً لرؤية يحتل فيها المستقبل كامل خارطة الطريق، وإن ترك فيها شيء للماضي فإنما لعرضه كبرهان على أن الصراعات الدموية والحروب والإقصاء والاستبعاد والعصبوية قد شكلت الأسباب الأساسية للتخلف وتمزيق المجتمعات .
عندما قرر الشعب في الجنوب تجاوز الماضي بذلك القرار التاريخي الذي اتخذته القوى السياسية والاجتماعية في إطار الحراك السلمي وخارجه والتي حملت عبء السير نحو المستقبل مخلفة وراءها الماضي بكل أثقاله، كان الجنوب يعيد إنتاج دوره التاريخي في التصدي لمهام انتشال الوطن كله من مستنقع الماضي بصراعاته وآلامه ومآسيه وهو الأمر الذي استفز حراس ذلك الماضي مما دفعهم إلى مقاومة هذا القرار التاريخي وعملوا على كسره وتعطيله بكل الوسائل.
جند نظام صالح كل قوته لاختراق هذا الفعل الثوري، واستنجد ببعض مكونات الصراعات القديمة وزج بها في قلب الحركة الشعبية التي أنشأها هذا القرار التاريخي لتخريب الفكرة وتعطيلها، لم تستطع محاولاته أن تعطل القرار ولكنها خلقت عند رواده حاجة لمزيد من الشروط للتمسك به بصورة بدا معها المشهد انه يحتاج إلى مزيد من الصبر والنضال والإرادة للسير في طريق التصالح والتسامح.. وكان كلما ازداد ضغط الزخم الشعبي في هذا المسار كلما انتقلت المواجهة معه إلى طور آخر من التخريب والقمع لأن حراس الماضي يدركون المعنى الحقيقي للتصالح والتسامح الاجتماعي، فعندما يتحقق بيد المجتمع نفسه فانه يتحول إلى قوة مادية بشروط التغيير الذي ينخرط فيه هذا المجتمع بكل مكوناته وقد تخلص من إرث الماضي .
ومهما بدا أن الوقائع بعد ذلك قد صنعت خارج هذه الفكرة النبيلة بما تسبب فيه حراس الماضي من حرب وصراع دموي امتد على طول وعرض البلاد، إلا أن التمسك بروح التصالح والتسامح في المكان الذي خرج منه وهو الجنوب لم يعد رغبة يمكن التخلي عنها وإنما أصبح ضرورة يستلزمها أهمية إعداد الجنوب وتهيئته لاستعادة مكانته التاريخية وإنقاذ الوطن اليمني بأكمله .