ليست خسارة رحيل صحفي كمحمد عبده العبسي خسارة ثقيلة فحسب، بل فاجعة تقرع جرس خطر موت الصحافة الاستقصائية التي لم تولد بعد بصورتها الطبيعية والحقيقة أيضا، محمد عبده العبسي مات، هكذا يريد القتلة أن يقتلوا شواهد الجريمة، ويريدوننا أن نساعدهم في قتل محمد من جديد..
محمد قُتل، هو لم يمت ،والموت قدر مثله مثل أي قدر محتوم، لكن محمد عبده العبسي قُتِل ونحن جميعا مستيقنون بهذه الحقيقة، ولو كان محمد حياً لجعلها”فرضية" وسعى للتحقيق فيها والاستقصاء عن كل ما يرتبط بها، وجمع كل خيوطها والتحري والتدقيق والتحليل والاستنباط وجمع الشواهد وانتزاع اعترافات بأساليب الصحفي الاستقصائي المحترف، ومن ثّم جمع الوثائق ثم كشف الحقيقة التي نحن واثقون منها، و استيقنتها أنفسنا ونراها واضحة ولا تقل حقيقتها عن الشمس التي تزورنا كل صباح.
محمد لم يمت، قُتِل الصحفي الاستقصائي الذي ما فتئ في استخراج الوثائق وفضح الفساد وملاحقة الفاسدين، محمد أعداءه كُثُر، هو صاحب التحقيق الأهم في تاريخ الصحافة اليمنية،”وثائق بيع الغاز اليمني"، لقد أنجز محمد ما عليه، استعاد ثروتنا وحوّل صفقات بيع الغاز إلى غاز يشعل حميّة شعبنا الكريم، فكانت صفقة الفساد –بفضل تحقيق محمد- صفقة ضمن صفقات الثورة على الفاسدين والمفسدين في الأرض اليمنية، فهل كان الغاز هو سمّ محمد؟!
محمد قُتِل، لم يمت الصحفي الاستقصائي محمد عبده العبسي، أمامنا ألف دليل، ومن أهمها شهادة وكيلنا الأول الأستاذ سعيد ثابت شهادة مهمة ودليل واضح، بحجم مكانة ومصداقية الأستاذ سعيد، ويقينية وبرهان أفرج عنه الأستاذ سعيد في وقت حساس ،وهو يعي ما يقول ومتى يقول، ما أفصح به الأستاذ سعيد ثابت ليس حديثا خاصا بقضية اغتيال الشهيد محمد عبده العبسي، إنه حديث عن كل قضية اغتيال تعرض لها الصحفيون، عن غموض مقتل جميلة جميل، تلك المظلومة المخذولة التي تركناها تموت في خبال عجيب (!!)، قتل العبسي كما قتل شحرة ومن قبله صحفيون آخرون!.
خذلنا محمد عبده العبسي ولم نستطع تشريح جثمانه، ولم تسعفنا ملَكَته في”الصحافة الاستقصائية" لكشف قاتله ونوعية السلاح الذي قتله به، وعجزنا عن توفير تكاليف”الطب الشرعي"، لكننا نحن الشهود، ولا يمكن أن نساهم في قتل محمد مرتين، لا يمكن أن نقبل بموت قضية محمد فنحن الشهود وتحتفظ ذاكرتنا ورسائلنا بما كان محمد يبوح بها وهي إشارات صحفي خبير ومحترف وماهر، محمد ساعدنا في ملاحقة قاتليه، وليس عجزنا عن فحص جثمانه يعني أنه قتل ، لا يمكن أن يدفن سرّ مقتل محمد في كفنه، لا يمكن على الإطلاق.
محمد قُتِل لكن الصحفي الاستقصائي لن يموت، لن يموت محمد الاستقصائي، وأمامه مهمة جمع أدلة ووثائق قصة”قتل الصحفيين" بطريقة الغموض المحترف، لن يموت على الإطلاق، محمد الصحفي الاستقصائي أيقظ الخور والعجز الذي كان يقتلنا، أيقظنا من التخدير الذي سمح للوحوش التي تربّت على الجريمة أن تنهش من أسرتنا الصحفية، وتخطف أرواح الأطهار واحدا تلو الآخر، محمد يقول لنا: لتكن روحي آخر ضحايا القاتل الغامض، حولوها إلى سمّ زعاف يفتت جسده ويقطّع مخالبه، ليشرب من كأس الموت الذي أسقانا إياه!.
اليوم ندفن جسد محمد عبده العبسي، لكن محمد أحيا قضية زملاءه الأطهار من فتحنا ذاكراتنا كمقابر أخرى ممتدة لمقابر القتلة المتوحشون، محمد عبده العبسي استثنائي ومختلف، لم يترك رسالته ولا نسي مهمته، هو اليوم يمارس مهنته ويثير الأسئلة في وجوهنا، يرمي بالأدلة أمامنا، ونحن نسير بجثمانه نحو مثواه الأخير، يقوم بوضع الإشارات والدلالات يمنة ويسرة، يبعث فينا حكايات الاغتيال، يطالبنا بإحياء جرائم قتل جميلة جميل وحميد شحرة ومحمد العلواني وعبد العزيز السقاف، وكل من مات من الصحفيين.
محمد عبده العبسي اليوم يقف خطيباً فينا معاشر الصحفيين، يناشد ضمائرنا، يبعث فينا روح الصحفي الرسالي المؤمن بمهمته ودوره والمؤدي لواجبه كما يجب وبما يتناسب وحجم الدور الوطني الكبير والأمانة الجليلة الملقاة على كاهله، يحاضرنا عن قيم الصحافة، ويحثّنا على خوض غمار الصحافة الاستقصائية، يقول لنا: كفى غرقا في متاهات شراك الأخبار السطحية، لو نفر من كل طائفة منكم بعضكم ليغوص في أعماق القضايا التي تحيط بكم، ويبحث في ما وراء الجرائم التي تحدث لشعبكم، لساهمتم في وقف نزيف مزيدا من الدم ومن المال ومن الهموم أيضاً.
محمد عبده العبسي اليوم يولد من جديد، هو في مهمة عابرة للحياة، يوم وجدنا عاجزين عن الكشف عن كيفية قتل زملاء لنا رحلوا في غموض مخيف، هو اليوم يخرج للصحفيين اليمنيين ملهما وإماما، وقائدا لإنقاذ أرواح بدت مخبولة من هول صدمة رحيله الغامض، غير أنه أقوى من أن ينغمس في وجعه أو ينشغل في تفاصيل موته، هو يلّوح لنا بيديه وابتسامته ويترك لنا مهمته التي استهلكت راحته طيلة حياته، يتركنا لنحلل ونفسر ونستقصي كل دلالات صوره وصور كل ابتسامة تقتل في بلاد اليمن السعيد!!، أو الذي يجب أن يكون سعيد..
السلام عليك يا محمد عبده العبسي، السلام على روحك التي تنفستك فيها نحو ربع ساعة فقط في حياتنا القصيرة، لكنها ربع ساعة كحياة يا محمد..