ليست الحروب دائماً شرّاً محضاً مطلقاً، وإنما قد يكون فيها من الخير الكثير، لكن تحجبه أدخنة بارود الرصاص وروائح الضحايا وغبار المعارك والدمار والخراب. وعلى الرغم من ذلك كله، تزول كل هذه الحواجب عن واقع أكثر تعافياً ومقاومة للأمراض والتشوهات المجتمعية. يستدعي هذه العبارة والصورة خبر الانتخابات الصومالية وسلاستها التي اختتمت في الثامن من فبراير/ شباط الجاري، بفوز المرشح محمد عبد الله محمد الشهير بفارماجو.
مرّت الصومال خلال عقدين ونصف العقد بمرحلة فوضى عارمة من الاقتتال والحروب الأهلية التي خلفت وراءها مئات آلاف القتلى والجياع والجرحى والمهجرين في أصقاع الأرض. هذه البلاد التي تركها الجميع تغرق في مستنقع الدم، ولم يلتفت إليها أحد، لا قريب ولا بعيد، يتفرج الجميع على دماء أبنائها النازفة، وكأنهم ناقة جرباء لا ينبغي الاقتراب منها.
ذاق الصوماليون مرارة تلك السنوات بصمت وكبرياء فريدين، وواجهوا مصيرهم بأنفسهم، كجريح يحاول وحيداً أن يوقف نزيف دمه، من دون أيّ أدواتٍ لإيقاف ذلك النزيف، في متواليةٍ من الحرب التي تشكلت سنوات طويلة بأشكال مختلفة، كان آخرها، والذي لايزال قائما، صراع الصومال مع جماعات العنف الإرهابية العدمية.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن بوادر التعافي في بلدٍ مزّقته الحرب الطويلة وأنهكته بادية بقوة، وإنْ مع كل التحديات الكبيرة التي تعترض طريق هذه الاستقرار والتعافي، وفي مقدمتها جماعات العنف وبناء مؤسسات الدولة، سياسية ومدنية وعسكرية وأمنية، لمواجهة كل تلك التحديات الكبيرة.
شهدت الصومال انتخابات رئاسية، تجريها الغرفة البرلمانية المكونة من 275 عضواً منتخبا و54 عضوا من مجلس الأعيان المنتخب أيضاً، مقدمة في طريق أن تصير هذه الانتخابات الرئاسية حرة ومباشرة من الشعب في العام 2020. وقد لوحظ أن الانتخابات جرت بسلاسة، في ظروف أمنية بالغة الخطورة، والمعلوم أن في الصومال تبادلا سلميا لسلطةٍ تم الاقتتال عليها وحولها طويلاً.
هناك رئيسان سابقان، شيخ شريف شيخ أحمد والرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود، وقد شاركا في الانتخابات وخسرا، وعادا إلى ممارسة حياتهما الطبيعية مواطنين صوماليين، وهذه ظاهرة نادرة الحدوث في العالم الثالث، والعالم العربي خصوصاً. ومع هذا، صارت هذه الظاهرة في الصومال النازف دم أبنائه جرّاء الحروب الطويلة، وهذا ملمح ومؤشّر تعافٍ كبير أن يتم تبادل السلطة سلميا في بلد دمّرته الحرب، وأنهكه اقتتال السلطة نفسها التي يتم اليوم تبادلها سلميا.
تتقدم تحدّيات هذه اللحظة الصومالية مواجهة الإرهاب، وإعادة تأهيل مؤسسات الجيش والأمن حامييْن هذا الاستقرار النسبي والتعافي السياسي. وهذا ما يسعى إليه الرئيس المنتخب، محمد عبد الله محمد، القادم من خلفية علمية وعملية، تم اختبارها بنجاح، حين توليه مقاليد رئاسة الوزراء خلال عام 2010، حيث نجح فارماجو بإعادة ترتيب مالية المؤسسة العسكرية والأمنية ورواتبها، وعمل على إعادة تأهيل هذه المؤسسة الضامنة مسار الاستقرار السياسي وحمايته، فضلا عن توجهه الكبير لتأهيل الجيش والأمن الصومالي، والتقليل من الاعتماد على قوات الاتحاد الأفريقي.
صحيح أن تحديات الرئيس والدولة الصومالية الراهنة كبيرة، لكن الخطوة الأهم ترتيب مسار المعادلة السياسية الحاكمة، وهذه خطوة مهمة لمواجهة التحديات التي تواجهها الصومال اليوم، وفي مقدمتها الإرهاب وبناء مؤسسات الدولة والإشكال الاقتصادي والتنموي، وهذا يتطلب جهودا كبيرة، ويعتمد بشكل كبير على فتح آفاق التعاون والاستثمار مع الدول الصديقة والشقيقة، والتي تتوفر لها في الصومال فرص استثمارية كثيرة، لا ينقصها سوى تثبيت المسألة الأمنية، ومن هذه الفرص ليس فقط اليورانيوم والغاز والنفط، بل أيضاً الزراعة والثروة الحيوانية التي تمتاز بها هذه الأرض المعطاءة.
نافذة الأمل الصومالية مشرعة اليوم لعالم عربي مضطرب، ومنهك بالاقتتال والصراعات والتحديات الكبيرة أمام وجوده وأمنه واستقراره وديمغرافيته، هذه النافذة اليوم بحاجة لتعهّدها بالصيانة والإطلالة عليها ومنها نحو أفق المستقبل الذي ينتظر هذه المنطقة، والذي يجب أن تمضي نحوه، بعد أن كان العرب يضربون مثلهم في الاقتتال والفوضى والدمار بالصومال. وها هي الصومال اليوم تتعافى، في وقتٍ يذهب فيها العرب نحو دوامة الاقتتال والفوضى، في مفارقةٍ ينبغي التوقف عندها طويلاً، لأخذ الدروس من هذه اللحظة الصومالية والتاريخية.