هيكل الذي لا تعرفونه!
حتى نعرف أقدار الرجال، ثمّة واقعتان كنتُ شاهدًا عليهما مطلع الألفية الثالثة أي سنة2000..
هاتان الواقعتان تنبئان عن شخصية محمد حسنين هيكل النادرة بين مثقفي وصحفيّي عصره
لا ثانيَ لهيكل.. قلتها بعد وفاته.. ولعلّ الواقعتين أن تؤكدا ذلك!
سأذكر الواقعتين اليوم لأول مرّة بمناسبة الذكرى الأولى لوفاته.. وقد كنتُ شاهدًا عليهما بحسب شهادتين سمعتهما بأذُنَي.
الواقعة الأولى سمعتها من الدكتور/ جابر عصفور، هنا في صنعاء، وكان حينها رئيساً للمجلس الأعلى للثقافة في مصر قبل أن يصبح وزيراً للثقافة قبل سنوات قليلة..
كان الدكتور جابر زائراً لليمن وكنا في مقيل الدكتور/ عبدالعزيز المقالح.. وكان الحديث عن آخر كتب هيكل "المقالات اليابانية " وفجأةً، قال الدكتور جابر :
سأحكي لكم حكاية لا يعرفها أحد عن هذا الرجل (يقصد هيكل) وأكمل: تعرفون مشروع الألف كتاب مترجم الذي أوشكنا على إنجازه في المجلس الأعلى للثقافة.. كنا قد طبعنا مئات العناوين بعد ترجمتها من اللغات الأجنبية.. إلاّ أننا توقفنا عن إكمال المشروع بسبب العجز المالي الذي يعاني منه المجلس.. وشاع الخبر عبر كل الصحف عن هذا العجز الذي أوقف المشروع الكبير!..
ويكمل الدكتور جابر روايته قائلاً:
وذات يوم وبينما أنا في مكتبي رنّ الهاتف ولأسمع فجأة صوتاً يقول.. أنا محمد حسنين هيكل! ويكمل الدكتور جابر قائلاً.. لقد فاجأني! ربما لأنه لم يكن لي علاقة بهيكل فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها صوته عبر الهاتف!..ويضيف الدكتور جابر: سألني هيكل عن مشروع الألف كتاب مترجم وحكاية العجز.. ثم فاجأني بقوله.. أريدُك أن تذكر مبلغ العجز.. وسأبعث إليك شيكاً به!
يقول الدكتور جابر إنه لحظتها شعر بحرج شديد.. كيف له أن يذكر مبلغاً لهيكل!.. وطال الحوار بين الرجلين.. ليحسمه هيكل بقوله: طيب.. سأرسل إليك شيكاً بمبلغ مائة ألف دولار من حيث المبدأ.. كدفعة أولى مساهمة مني في المشروع.. وأتمنّى أن تعدني بألاّ يتم النشر أو الإعلان أبداً عن مساهمتي!
هذا هو هيكل!
وقبل حلقات الجزيرة..
وما يزال الدكتور جابر عصفور موجوداً.. وشاهداً..
الواقعة الثانية أغرب من الخيال.. ولا أظن أديباً عربياً أو كاتباً.. أو صحفياً في العالم كله يمكن أن يرقى إلى هذا المستوى من السّمُو والاعتزاز بالنفس.. وكنتُ أيضاً شاهدًا عليها!
قبل أن أحكيها لابُدّ أن تعرف أن هيكل كتب كتاباً سنة 1982 بعد مقتل السادات أسماه "خريف الغضب " الكتاب أثار ضجة كبرى.. وصدر قرار من مبارك بمصادرة ومنع الكتاب في مصر..
لكن الكتاب طُبِعَ في أكثر من ثلاثين لغة.. ومرّة واحدة!
هيكل اتفق مع الناشر اللبناني الكيلاني- صاحب المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت- على الطبعة العربية وبيعها.. ما دام الكتاب مصادراً وممنوعاً في مصر..
تلك مقدمة كان لا بد أن أذكرها قبل أن أدلف إلى أغرب وأعجب حكاية لا يعرفها أحد!.. لأنها لم تعلن ولم يذكرها هيكل ولا غيره!
لكني سمعتها من الناشر اللبناني نفسه.. الكيلاني!
وقد دعوته لزيارة اليمن سنة 1999 وذلك ليتسلم قيمة دَيْنٍ قديم على مؤسسة 14 أكتوبر قبل الوحدة.. وكان قد تم دمجها بهيئة الكتاب التي كنت أديرها في تلك السنة 1999، دعوت الكيلاني للغداء في أحد المطاعم.. وكنا قد بدأنا النزول من مبنى الهيئة في طريقنا للمطعم حين سألته فجأة وبفضول! أنت طبعت خريف الغضب لهيكل.. يا ترى كم نسخة طبعت من الكتاب في نسخته العربية؟..
أجابني بهدوء: 700000 نسخة رسمية!
أذهلني الرقم!.. وحينما شعر بذلك أضاف: ما تم طباعته تزويرا وتصويرا عشرة أضعاف في السوق.. يعني صوّروا الكتاب وباعوه في طبعات شعبية!
لكنني كنت متلهفاً لأعرف شيئاً آخر.. ثمن النسخة!
أجابني الكيلاني: بعناها بـ 6 دولارات.. يعني أن إجمالي مبيعات الكتاب من داره فقط أربعة ملايين ومائتي ألف دولار!
هذا كان مبلغاً كبيراً جداً مطلع ثمانينات القرن العشرين..
وهنا توقفت.. وتجاسرت.. لأسأل..
كم كان نصيب هيكل من الملايين الأربعة!
وكنا ما نزال متوقفين منتصف درَج الهيئة حين أجابني ببرود: رفض هيكل أن يأخذ دولاراً واحداً!
كان قد أصابني الذهول حين سألته عن السبب؟!
أجاب ببساطة لبنانية: ماباعرف! وأضاف: هيكل كان يريد للكتاب أن ينتشر فحسب!
لعلّي أطلت عليك!
لكن الواقعتين جديرتان بأن تعرفهما صديقي ومتابعي العزيز..
تتفق مع هيكل أو تختلف.. لكنّ شخصيته نادرة ولن تتكرر بسهولة.. لا هيكل آخر!..