إن الإنسان هو المخلوق الذي أنعم الله عليه بملكة التفكير، ومع ذلك فإن معظم الناس لا يستخدمون هذه الملكة المهمة كما يجب، حتى أن بعض الناس يكاد لا يتفكر أبداً، فأصيب عقله بالكسل، وتحوّل من حيث يعلم أو لا يعلم لتابع، يسير خلف أفكار غيره، يسير مع التيار وتحركه الأمواج، ويرقص على النغم السائد والصوت العالي، مزعج للآخرين ومستفزهم، تلك هي أدوات الواقع المفروض بالعنف وسيئاته وعلله.
العدمية التي جعلت من بعضنا أداة قتل واتهام وانتهاك وشيطنة بعضنا بعض بالتلاعب بمفاهيم الأخلاق والدين والقيم والمبادئ، ليبرر أطماعاً سياسية تسلطية، وأهدافاً أنانية ضيقة، مشاريع صغيرة وأنانية تطغو على المشروع الوطني والإنساني وتقيده وتشوهه، إنها مشكلتنا الأزلية التي تعوق تحولاتنا ومسيرتنا الوطنية والتغيير والنهضة، التي تنتج لنا صوراً مكررة لذات العفن والاستبداد والإقصاء .
منذ فجر الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر إلى يومنا هذا ونحن لم نحقق شيئاً مأمولاً ولازال الطموح معاقا، وكل مشاريعنا الوطنية مؤجله، والمشاريع الصغيرة هي التي تتفوق، ولها رجالها من المطبلين والمزمرين، تصنع لها زعامات وأحزاباً ونفوذاً وجاهاً وآلة إعلامية تزوّر الحقائق وتجمل القبح، كل ذلك على حساب المشروع الوطني المتهم دائماً بحسب المرحلة والحامل والظرف، تارة ماركسي وثارة إرهابي داعشي وتكفيري وتارة طائفي ومناطقي ...، وهكذا تتوالد المشاريع الصغيرة بحضانة الأنانية المفرطة وغذاؤها الصراع على السلطة والفكر، على حساب آمال وطموحات الناس .
البعض يريد واقعاً يلبي قناعاته، لا علاقة له بالآخر، فيبرز السؤال ما هو الوطن الذي نريد؟ كان شمالاً أو جنوباً أو اتحادياً ( تلك إرادة الجماهير في وضع صحي وسوي )، دون أن نعود لمآسي الماضي، للاستبداد، للإقصاء، للاستحواذ، للفكر والرأي التسلطي الأوحد، لتجاوز الصراعات تلو الصراعات، للخروج من دائرة الاتهام والإقصاء والتهجير والنفي لبعضنا البعض، يجب أن نبحث عن وطن يستوعب الجميع ولغة مشتركة ليتوافق فيها الجميع ونظام وقانون يحكم وينظم العلاقات بين الجميع، ويخضع له الجميع دون تمايز وتسلط وهيمنة واستبداد .
لنتذكر فالذكرى تنفع المؤمنين، كم مرة أقصينا بعض ونفينا وهجرنا بعضا بنا على خلاف فكري أيدلوجي في الجنوب ( لحماية مرحلة الثورة الوطنية )، وخلاف سياسي سلطوي في الشمال (لحماية سلطة الفرد والمركز والسلالة )، ثم الوحدة اليمنية التي طمها وأفرغها من محتواها الطامة الكبرى المشروع الطائفي السلالي، فحكم قبضته على الجميع حتى ضاقت حلقته ليقصي الجميع لمشروع أسري وراثي إمامي عفن، اليوم نحن نعاني الأمرين منه .
هذا المشروع بدأت حلقاته تلتف حول عنق المشروع الوطني، مستثمرا التناقضات ومغذييها ويزيد من حدة التنافر ويقطع حبل الوصال والتقارب، كان هناك حوار بدأ في صنعاء بعد الوحدة بين فرقاء الحزب الاشتراكي اليمني وكاد التقارب أن يضفي للحمة الرفاق، لولا تدخل النفاق وفي حضرة عدد من القيادات طٌلب من باجمال ومن معه الانسحاب لينضموا للمؤتمر الشعبي العام، بقولهم ليتم التغيير والنضال الوطني من خلاله، وإذا به طمهم جميعا وتحول الكثير لعبيد ثم نفوس أنانية حتى صاروا نفوذا لمشروع سلالي اسري على حساب المشروع الوطني، وها نحن اليوم في صراع مع هذا الكيان العفن لنكون أو لا نكون .
مشروعنا الوطني هو أن لا نكرر مآسينا وآلامنا وأوجاعنا، قضيتنا ليست انتصار فئة على أخرى أو فكر على آخر، قضيتنا هي انتصار وطن، لن ينتصر وفيه ظلم ومظلومون وقهر ومقهورون وتعسف منفيون، لن ينتصر وشبح الماضي يعكر صفو الحاضر، لن ينتصر وهناك من يريد أن ينتصر لذاته ومشروعه، لا للقضية وللأمة والوطن والشعب .
لا تحدثني عن إرادة شعب دون حرية، لا تحدثي عن تعبير للرأي والحشد دون مساحة حرية متكافئة لكل الأطراف، كل يعبر عن رأيه ومكوناته بحرية مطلقة دون قيد أو شرط، وتجد من يدافع عن حرية الآخرين قبل حريته، هناك فرق بين إرادة شعب وفرض أمر واقع على شعب.