الواقع العربي، بكل تأكيد، فاطر لضمير الإنسانية، فمن سوريا الرازحة لوطأة دراكولا العصر الطاغية "بشار"، إلى العراق الممزق بكتائب الطوائف الآخذة بتدمير نحو ثلاثة آلاف عام من التعايش والتحضر، إلى بلاد اليمن الغارقة في أتون حرب شعواء همجية شنتها جماعات آتية من كهوف التاريخ.
لن أتطرق إلى قمم باتت مجرد لقاءات روتينية للاستهلاك الخطابي وللمزايدة باسم قضية فلسطين وتحرير الأرض العربية الأخرى. سأتحدث عن الجديد الذي يتوجب التوقف عنده، هو أن البلاد العربية تعرضت لهزة عنيفة ومازالت تعيش محنة حقيقية تستدعي التعاطي معها بنوع من الواقعية والموضوعية.
نعم، هناك متغير فرض نفسه، وعلى القادة العرب اليوم أن يثبتوا أنهم على غير الهيئة الراسبة في وعي وذاكرة المجتمعات العربية التي يستلزمها جهود وأفعال كي تتحرر من حالة اليأس والإحباط الناتجين عن سبعة عقود من ولادة "الجامعة العربية".
فلكم أن تتصوروا لو أن الأشقاء في دول الخليج انتظروا قراراً من الجامعة العربية كي يتدخلوا في اليمن وكي ينصروا الشعب السوري الذي استباحت ثورته السلمية ترسانة القوة والبطش والجبروت؟
هذا التدخل الذي يبدو أنه لم يرق لبعض القادة العرب، الذين لا يجدون غضاضة في استباحة العراق وسوريا من جهة الحرس الثوري الإيراني، ومن ﻣﻴﻠﻴﺸﻴﺎﺕ حزب الله اللبناني، وطيران الرعب الروسي.
فمأساة المجتمعات العربية كامنة في حكامها وأنظمتها الاستبدادية القمعية المعطلة والوائدة لكل تطلع وأمل وحلم بالتطور والازدهار الاقتصادي والتكنولوجي والمعرفي والحضاري.
الحكام العرب، إذا ما أردت وصفهم، فإن أفضل صورة لهم، هي تلك التي أوردها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، في سياق مذكراته اليومية.
قال كارتر: "اكتشفت في القادة العرب، أنهم جميعهم تقريباً يتكلمون بلهجتين اثنتين: فهم عند اللقاء بهم منفردين، يبدون القبول بالسلام، ولا يتوقفون عن الترحيب بالجهود المبذولة من أجله وإبداء التشجيع لها".
"أما في المحافل العامة، فلا يجرؤ أي منهم باستثناء السادات. ولا تؤاتيه الشجاعة على التسليم بأنه مستعد على مواجهة الشروع في المفاوضات مع إسرائيل".
"وهذا السلوك يمليه الخوف ولا شك، الخوف من أن يعتبر الواحد منهم، خائناً في نظر القادة الآخرين في العالم العربي، والخوف من حلول نقمة الرأي العام الوطني عليه".
يعني أنهم يخشون بعضهم، فكل واحد منهم عامل للآخر مليون حساب.. وهم جميعاً في المحصلة زعامات من خشب أو بلاستيك أو زجاج أو طين لا فرق.
طبعاً، أعد ذلك من الماضي.. سأغفل هنا وأتجاوز الصورة السلبية النمطية السائدة عن الجامعة العربية وقممها السؤومة المحبطة.
دعونا نتكلم بشيء من الإيجاب والتفاؤل وبعيداً عن لغة الإحباط والمزايدة. فالحاصل أننا إزاء متغيرات دولية وإقليمية ووطنية لا نظير لها في التاريخ الحديث على ﺍلأﻗﻞ.
لحظات تاريخية يستلزمها قادة قادرون على التقاط الفرصة والتعبير عنها، وأعتقد أن دول الخليج تحديدا وبعيد تجربتها القصيرة في اليمن وسوريا ﻭﻟﻴﺒﻴﺎ، بمقدورها أن تقدم ذاتها كقوة اقتصادية وسياسية عربية إذا ما أحسنت استغلال المتغيرات الدولية لمصلحتها ولمصلحة العرب عموماً.
الواقع يشير إلى أن الإمبراطورية الأميركية بدأت تتفكك وتتراجع ولمصلحة دول عدة ناهضة آخذها بالتصاعد رويداً رويداً.
كما وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي بدوره عامل يلقي بظلال تبعاته على دول الاتحاد وعلى علاقاتها مع بعضها ومع الآخرين.
وهناك من المؤشرات الاقتصادية والسياسية لتراجع الهيمنة الأميركية، ما يدفعنا للقول بأن التدخل الإيراني الروسي التركي العربي في حروب المنطقة يأتي اتساقا مع الحالة الدولية الراهنة.
أتمنّى من القادة العرب أن يدركوا أن الواقع الدولي في طريقه للتبدل عاجلاً أم آجلاً؟ فبرغم شدة الإعصار الواقعة تحت تأثيره دول المنطقة، فبكل تأكيد لدى العرب الكثير من ذخيرة الموارد والإمكانيات والأفكار، ما تجعلهم قادرين على اجتياز المحنة، شرط أن يحسنوا استغلال ما بحوزتهم.
وهذه الأشياء أعتبرها مؤهلات كافية كي يعالجوا أزماتهم ومشكلاتهم الداخلية أو تلك المتعلقة بالدولة الفلسطينية.
فالمهم هو إدراك أن العالم يعيش حقبة جديدة مختلفة كلياً عما ساد، ما يتوجب من القادة العرب أن لا يشغلوا أنفسهم ببيانات الشجب والاستنكار أو المدح والإطراء في كرم الضيافة وحسن الاستقبال.
فالحال أن زمن أصحاب الفخامة والجلالة والمعالي انتهى، فالمقياس الآن يتمثل بماهية المصالح والمنافع الاقتصادية المتبادلة، وقبل ذا وذاك بما يتحقق للمواطن من رفاهية وحياة حرة كريمة.
والسؤال اليوم: هل هذا التدخل العسكري العربي سيكون فاتحة لعهد جديد من التكتلات والتحالفات الاقتصادية والعسكرية العربية العربية؟ وهل اجتماع القمة في الأردن سيكون بداية جديدة أم نهاية غير حزينة للبيت العتيق؟