سألني أحدهم: ماذا يحدث في محافظات الجنوب بعد تحررها من القوى الانقلابية؟ وأين اختفت القوى الجنوبية التي يمكنها ضبط إيقاع الحالة المنفلتة المستهترة؟!.
فقلت له: ما يحدث يا صديقي هو نتيجة طبيعية ومتوقعة لذاك الجنون الثوري القائل: اتركوا الشارع الجنوبي كي يعبّر عن ذاته وكي يخلق قادته من أوساطه.
وما تراه ونراه، هو نتيجة لتلك السنين الكفاحية التي ترك فيها الشارع يعبّر عن آلامه وأحلامه، ودونما ضابط أو وعي أو حصافة أو قل قادة سياسيين يتحلون بالموضوعية والنضج.
نعم، فنضال الجنوبيين، كان يستلزمه فكر وخطاب ونخب توجّه وتقود وترشد الجماهير التواقة للحرية والكرامة والانعتاق من أقبح نظام عائلي عسكري جهوي متخلف.
لكن تلك الانتفاضة الشعبية العارمة السباقة لكل الانتفاضات العربية التالية، للأسف، لم يصاحبها وطوال مسيرتها إلا الخطاب الساخط الغاضب المستفز المنفلت.
صحيح أن الخطاب المرتفع نسبياً عما هو مألوف، أعطاها زخماً وحضوراً إعلامياً وسياسياً، لكنه ومن حيث لا يدري أفقدها رويداً رويداً بريقها الواصل وهجه إلى دياجير وأمكنة عدة تجاوزت مساحة الجنوب.
فمثل اي انتفاضة او ثورة، الجماهير الغاضبة - ايضا - كبرت وتضخمت أشبه بكرة ثلج، وكلما زاد دورانها زاد حجمها وضررها وضحاباها.
وفي وسط هذه المعمعة والانبهار برزت قيادات يمكن القول انها في الأغلب لم تكن تحلم انها ستكون حاملة لراية تعد اكبر من حجمها وتفكيرها.
كما وتصدرت الأفكار الشوفينية الراديكالية الضيقة المشهد العام. ربما لم تدرك وقتها تلك القيادات الطارئة إنها وبتلك الشعارات المتطرفة الملهبة لحماسة البسطاء، إنما تقضي على فرصها، وتزيد من رصيد خصمها.
فلا يكفي مجتمع ما التوشح بعدالة القضية، فما من قضية تنتصر دونما امتلاك أصحابها لأدوات إثبات وإقناع، ودونما يكون لهؤلاء خطابا دال ومعبر عن روح الفكرة وعدالة القضية.
اذكر وقتها أنني انتقدت النخب السياسية وفي سلسلة تناولات صحافية، أعربت فيها عن خشيتي من ترك الشارع الجنوبي يمور غضبا وانفعالا وبغضا وانفلاتا.
طبعا، النخب الحزبية عندما تخلت عن مواكبة حالة الغليان المتصاعدة في الجنوب، خاصة بعد أن فتحت له أبواب النضال السلمي، بعيد انتخابات الرئاسة في سبتمبر ٢٠٠٦م،كان لها حسابها ومنطقها، على اعتبار أن تماهيها مع شارع منفلت وعفوي في سلوكه وفعله، سيكون له عواقبه القانونية والنظامية على تلك الأحزاب المعارضة للنظام.
اليوم فقط، تتكشف الحالة التي لم تكن بحسبان أي من النخب والقيادات الحزبية المتماهية ضمنيا وإعلاميا وخطابيا مع قضية الجنوب أبان سنوات الغليان والغضب.
هذه الحالة الغريبة برزت قبل الحرب، لكنها وبعد تحرير المحافظات باتت شاخصة للعيان ولدرجة تسببت بكثير من الإرباك والحيرة والقلق والخذلان.
ما نراه الان في محافظات الجنوب الجزء الأكبر يمثل نتيجة لحالة الفراغ الناشئة بفعل تواري النخب السياسية والفكرية والحزبية، وبفعل تكريس ثقافة الصوت الواحد غير قابل بالآخر.
فحين ترك الشارع الجنوبي يمضي وبلا ضابط أو رؤية سياسية ناضجة وواضحة، كان ولابد من ان يفرز هذا الشارع قيادات تشبهه وتماثل سخطه وغضبه.
فعلام الاستغراب والاندهاش يا سادة؟ فما يحدث جنوبا هو نتاج لتلك الحالة الغريبة الشاذة التي دفعت بقادة المقاومة وحاملي سلاحها إلى واجهة السياسة والى معركة التنمية وبناء الدولة الحديثة.
مفارقة عجيبة، وأرجو ان لا يفهم من كلامي ان فيه تحاملا على احد، فعلى العكس من ذلك أجدني مشفقا على حال تلك القيادات وإتباعها.
فهؤلاء ومن وجهة نظري تم إقحامهم في معركة تختلف كليا عن معارك خاضوها، وفوق ذا وذاك حملوا قضية سياسية هي اكبر وأثقل من أن يحملونها.