بصدق لم أستطع هضم الدعوة للتظاهرة في ساحة العروض بعدن يومنا هذا الخميس ٢٧ أبريل. اعتقدت أن المسألة إما ﻣزحة خبيثة أو مقلب كبير أو هكذا.
لكن وبعد أن تلقيت سيلا من المنشورات، خلال اليومين الفارطين، أدركت وأيقنت أن الدعوة للتظاهرة لم تكن نكتة أو كذبة، وإنما هي حقيقة ويقف خلفها فصيل جنوبي كبير ومهم.
نعم، فصيل وجد ذاته مجرد لاعب حكم عليه قسراً الاعتزال، والجلوس بعيداً مكتفياً بالفرجة إزاء لعبة العصا والجزرة، باعتبارها اللعبة المفضلة المخاضة بين السلطات الشرعية وأتباعها وبين السلطات المحلية وأنصارها المحسوبين على الحراك والمقاومة تحديدا.
ومثل هكذا دعوات، بكل تأكيد ستعثر لها على مؤيدين وأيضا داعمين وناقلين، فطالما هذه المحافظات الجنوبية المحررة تعيش وضعاً غامضاً ومبهماً ومحبطاً أيضاً، فما من شك أن مثل هذه الاحتجاجات الشعبية متوقعة، ففي عدن وحدها ألف سبب ومبرر للتظاهر.
طبعا، الذي لم استوعبه بعد هو اختيار يوم ٢٧ أبريل، فالمعتاد أن التظاهر سنويا في هذا اليوم كان غايته إيصال رسالة سياسية إلى رأس النظام العائلي العسكري السابق.
وقتها كان لمثل هذه الاحتجاجات دلالتها وأهميتها السياسية، أنها بمثابة أول تعبير رافض لنتائج الحرب الكارثية صيف ٩٤م.
الحرب التي أعلنها الرئيس المخلوع يوم ٢٧ ابريل من ذينك العام وفي مهرجان جماهيري احتضنه حينها ميدان السبعين، وتفجرت على إثره أول مواجهات عسكرية، عصر اليوم ذاته، في محافظة عمران.
كان التظاهر في السنوات التالية للحرب فعلاً جريئا وملهما جدير بالاحترام والفخر والمشاركة، أما وقد سقط الرئيس صالح ونظامه،بل وأكثر، إذ أن المخلوع ورموزه باتوا الآن في معركة مفتوحة مع الداخل والأقاليم، ما جعلهم يعيشون في سراديب وأقبية خشية من غارة جوية.
فالانقلاب والحرب ومن ثم تحرير محافظات الجنوب من تلك القوى التقليدية - التي احالت يوم الديمقراطية إلى مجرد نكبة وذكرى مؤلمة تذكر الجنوبيين بمعاناتهم المستديمة من الهيمنة والإقصاء والنفي الداخلي - ما يستوجب من أصحاب الدعوة إلى مغادرة عهد المخلوع، بحيث يمكنهم تنظيم أنفسهم، ومن أجل قضايا سياسية وحياتية ملامسة لحياة المواطن.
أحدهم اخبرني بقصة ذاك العقيد الذي أعطي منصباً عسكرياً بعد تحرير عدن، ومع قيادته لكتيبة قتالية أبى إلا أن يزاول احتجاجه الذي اعتاده منذ سنوات ولحد الإدمان على المشاركة في التظاهرات.
قصة ثانية وقعت بعد تحرير المحافظات، وقدر لي حضور هذه الاحتفائية الحزينة في منطقة سناح بالضالع حيث اقترفت جريمة مخيم العزاء نهاية ديسمبر من العام ٢٠١٣م.
فبرغم أن الدبابة التي أطلقت القذيفة على المخيم باتت هيكلاً مخرباً في المكان بعيد تعرضها لصاروخ طيران، إلا أن التظاهرة تحولت إلى مناسبة لهتافات قديمة جديدة لاهجة بإطلاق الأسرى والمعتقلين، غافلة طبعا أن القائد ضبعان صار مصنفا كمجرم حرب وأنه قد مني بشر هزيمة.
قصة ثالثه، أصحابها يطالبون ولو على استحياء، بتنظيم عصيان مدني، وإنني هنا أعجب واستغرب من مجرد التفكير بإغلاق المحلات والمؤسسات التي هي بحكم المغلقة ويستلزمها وقتاً وجهداً خارقاً كي تعاود نشاطها التجاري والاستثماري والخدمي، ومع ما حل بها هناك من يريد إطلاق رصاصة الرحمة عليها.
الواقع أن ما حدث أبان حكم المخلوع، كان ثقيلا ومروعا، لكن ما حدث خلال السنوات القليلة الفارطة لهو أقسى وأفظع على صالح وشركائه، فهؤلاء مازالوا يخوضون حربا خاسرة وبكل الحسابات السياسية والعسكرية.
وعلى هذا الأساس، أتمنى على الجهة الداعية للتظاهر، إدراك حقيقة أن هناك معطيات جديدة، ما يستوجب منها التعاطي معها بعقلانية وحكمة.
فما حدث في المنطقة برمتها، لهو أشبه بزلزال تسونامي الذي لم يقتصر تأثيره وضرره على بلاد بعينها، وإنما بلغ أرجاء شاسعة.
وأرجو من هؤلاء استيعاب ما حدث وقبل أن يجدوا أنفسهم خارج سياق المنطق والعقل والتاريخ.