لم تشوه السياسة في أي بلد مثلما شوهت في اليمن. مورست بلا قواعد، ومورست على أنها فهلوة وشطارة وثارات وخفة. ولذلك فقد أعاقت بدورها عملية بناء الدولة، جعلت بناء الدولة مجرد احتيال على الحاجة الفعلية للدولة.. كل من سيطروا على القرار السياسي مارسوا عملية الاحتيال تلك. هربوا من الدولة إلى السلطة.. أقاموا السلطة التي أتقنت قمع الدولة لتواصل بعد ذلك قمع المجتمع.
قدموا سلطتهم القمعية على أنها الدولة، وخلقوا أزمة ثقة بين المجتمع والدولة. ألبسوا سلطتهم نظاماً سياسياً واجتماعياً وفروا له شروط أن يمضي بالسلطة بروافع نمطية من الثقافات التي وظفت لمباركة الاستبداد واعتبار الحاكم “ولياً للأمر” وأنه هو الدولة وأن الدولة هي “ولي الأمر"..
تمسكوا بالسلطة وأهملوا الدولة خوفاً من أن تنازعهم مؤسساتها ممارسة السلطة.
بعد أن تمت هيكلتها بانسجام مع هذا الوضع، أعادت السياسة إنتاج نفسها في صورة حروب وفساد وانتقامات وثارات وتنطع لا يقيم وزناً للشعب ولا لكلمته.. والأسوأ من هذا أنها أعادت إنتاج بنى ما قبل الدولة، بما في ذلك النظام الأبوي، بتراتبية اجتماعية فاسدة لتبرهن على أنها فقدت القدرة على التفاعل مع حاجة المجتمع إلى الدولة.
لنتابع كل ما يجري على أرض الواقع من تطورات لندرك بألم هذه الحقيقة. لم تعد السياسة بهذا الموروث المشوه، قادرة على حمل أي مشروع لإنقاذ البلد.. وحتى الفعل الجاد يأتي مفرغاً من ديناميات استمراره لتحقيق أهدافه.
البلدان التي خربت فيها السياسة وفقدت المبادرة لجأت إلى الاقتصاد كمحرك لاستعادة المبادرة المجتمعية والتي في إطارها بنيت مصالح الناس في الاستقرار والتعاون والتعايش والعيش المشترك والقبول بحماية مصالح الآخر وحقوقه وحرياته.. وكلها عناوين أساسية للدولة.
نجحت المبادرة الاقتصادية في أكثر من بلد بعد أن تخربت فيها السياسة وقادت إلى هزيمة هذه البلدان في أسوأ صورها مثل ألمانيا واليابان.. كانت المبادرة الاقتصادية هي التي استعادت الزخم المجتمعي لبناء الدولة وعلى هامش هذه المبادرة تشكلت أنماط جديدة من السياسة التي لا تحركها نزعات إيديولوجية أو ثأرية أو فوضوية وإنما مصالح راسخة تدور حول تلبية حاجات المجتمع المادية والروحية والمعرفية وتعزيز روابط العيش المشترك واحترام حق الناس في تقرير خياراتهم السياسية.