من مكر الأيام بالمظلومين أن مظالمهم يتبناها الظالمون، لا لينصفوهم، ولكن ليحلوا محل من ظلمهم، ليستمر انتقال المظلوم من ظالم إلى أظلم. وفي المشرق العربي ظلم كثير وفساد عريض يمتد كغمامة شتاء مثقلة بالوجع والرعود والدم والثورات، وتنتقل معها الشعوب من «يدي طاغٍ إلى أطغى إلى أجفى»، كما قال عظيم اليمن البردوني.
يقف الرؤساء السابقون يراقبون الوضع من مكان ما، على الشاشة التي تعرض لهم صورَ خصومهم وهم يتناحرون على سطحها، يرى صالح هادي وقد خرج عليه الزبيدي في اليمن، وينظر بشار إلى فصائل الثوار المتناحرة في الغوطة، ولعل أخبار ثوار ليبيا المتناحرين قد وصلت إلى «الأخ العقيد» رحمه الله. يرى الرؤساء السابقون «الشاشة المشوية»، فيبتسمون في مكر ويقولون: هذه نتائج ثورات "الربيع العبري".
قد يكون كلامهم أو بعضه صحيحاً، لكن الصحيح أن «لكل فعل رد فعل»، وأن «ثورات 2011» كانت ردة فعل لفساد وديكتاتورية الأنظمة التي أسهمت- عن طريق الدولة العميقة-في كل ما جرى بعد هذه الثورات، لأن الأنظمة-دائماً-هي التي تفرز الثورات عليها. وفي حال كتلك، تقف شعوب الشرق بين خيارين أحلاهما مر كما يقال: إما البقاء تحت وطأة الديكتاتوريات والفساد، أو إسقاط الأنظمة التي يتلوها إسقاط الدولة بالمليشيا، وإسقاط المجتمع بالقبيلة، وإسقاط الدين بالطائفة.
طريق تغيير الأنظمة من داخلها هو الأسلم، لكن في «عصر السرعة»، ووسائل التواصل، والغضب الجماهيري المكبوت منذ قرون، يصعب اجتراح معجزة تغيير النظام من داخله، وهنا أتيحت الفرصة للثورات الشعبية، التي أزاحت الأنظمة، لكنها لم تستطع بناء أنظمة بديلة، بعد أن دخلت الأحزاب والتنظيمات، بل ودخلت الأنظمة، أو أجزاء منها، على طريق هذه الثورات، وبعد أن ركبت المليشيات موجة الثورة، وبدأ الثوار يقاتل بعضهم بعضاً، ليقع الجمهور في فخ المقارنة المغلوطة بين «فساد وديكتاتورية النظام»، و»انفلات وتشرذم الثورات». وهنا يسقط الفرد العربي في دائرة القنوط، وانسداد الأفق الذي يدخله تدريجياً إلى مشارف «الانتحار المجتمعي»، وهو أخطر بكثير من مجرد عملية فردية يقوم بها شخص مكتئب ليضع حداً لحياته.
ما نعانيه اليوم هو مجموعة من «ردات الفعل» في مصفوفة متوالية من الثورات والانقلابات، التي تعكس شيئاً واحداً، وهو بحث هذه الشعوب عن شيء ما، قد نسميه الحرية والديمقراطية، أو العدالة والمساواة، أو النهضة والرفاه، أو البحث عن الروح الضائعة، أو الهوية الممزقة، أو المثال البعيد، أو ربما البحث عن الله. وفي بحر هذا التيه، وفي ظروف هذا البحث، تبرز مشكلة عميقة، وهي أننا نسلك الطريق ذاتها التي سلكها آباؤنا، والتي أودت بهم إلى النتائج الخاطئة ذاتها التي وصلنا إليها.
والسبب أن التاريخ لدينا مكتوب على الماء أو على رمال الصحراء، تُمحا أسفاره بسرعة فائقة قبل أن نتمثل دروسها في حياتنا الواقعية، أو أن هذا التاريخ يكتب لنا بشكل يحاول ألا يمس بصورة «آبائنا المقدسين»، وبـ»طريقتهم المثلى»، التي نحاول ألا نحيد عنها رغم أنها ربما كانت مناسبة لهم، غير أنها تحتاج مع تعاقب الأجيال إلى تغييرات بحجم الكمِّ المهول من المعطيات الجديدة التي ميزت حياة الأبناء عن حياة آبائهم. ومع أن القرآن يشنع تشنيعاً بالغاً على أولئك الذين يتبعون آباءهم دون تمييز، كما في الآية «قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون»، إلا أننا نقرأ الآية، ونسير في طريق «الآباء المقدسين».
نعود للقول إنه بفعل تحول «الثورات الشعبية السلمية» إلى «الفعل المليشاوي المسلح»، وبسبب دخول التنظيمات المتطرفة طرفاً في الصراع، وبقدرة الأنظمة العربية على التماهي مع المليشيات، و»الانضفار» في «نسغ جذري» عميق مثلته الدولة العميقة، لهذا كله، تحول صراع المجتمع/النظام إلى شكل آخر من الصراع الاجتماعي يمكن أن يمثل بثنائية صراع المليشيا/المليشيا، أو صراع الطائفة/الطائفة، بعد أن نجحت الأنظمة والأحزاب السياسية في تشويه صورة الفعل الثوري الشعبي، الذي خرج إلى العنف، وتماهي إلى حدا كبير مع الطائفية التي كانت «القشة التي أنقذت ظهور الأنظمة» إن جاز التعبير. ومع كل هذا الخراب الفكري والوجداني، والروحي والمادي الذي ضرب المشرق العربي، إلا أنه يمكن القول إن هذا الخراب كان الفاتورة التي يجب دفعها لتعاد صياغة منظومة القيم والمفاهيم، ويعاد تشكل الوعي والروح، وتنتظم مجموعة من القواعد الجديدة على أنقاض القديمة المتهالكة، ويجدد الخطاب السياسي والثقافي، وتصاغ قواعد اللغة وطرائق التفكير بشكل مختلف.
أما الذين يخافون من تغير ماهية الشرق بسبب تغير ملامح خريطته، فهم لا يعرفون أن ما سيتغير ليس الثوابت الحقيقية، ولكن ما قدمته لنا القرون على أساس أنها ثوابت، بينما هي من جملة المتغيرات. ما سيتغير هو «ثوابت الآباء»، وهي بالطبع «متغيرات الأبناء». ثم إن تغيير خرائط الجغرافيا لا يعني تغيير طبيعة الأرض. والتخلص من الأورام الدهنية لا يعني بحال تمزيق لحم وعصب هذا الشرق الموغل في القدم والدين والحضارة، وبلفظ آخر فإن انتفاء تفسير قديم لآية في القرآن على سبيل المثال لا يعني أن هذه الآية قد انتهت، إنما يعني أن فهم السابقين لها قد آن له أن يتغير، ليقاربها اللاحقون بأدواتهم المعرفية المختلفة، لتستمر الآية بظلال جديدة تشير إلى شمس العصر ونهاره الحارق. يلزمنا- إذن- أن نعيد النظر في ما كان يعرف بالثوابت، التي تحولت بفعل الزمن إلى متغيرات، يلزمنا أن نفسح المجال قليلاً للعقل ليُرَشِّد انفعالاتنا المكبوتة والتي يمكن تفهمها، وأن نترك القلب ليُليِّن «منطقنا العقلي» الجاف عندما نقارب المعضلات والحلول. لا يمكن التفكير بشكل منطقي في ظل هذه «الانفعالات المتقاتلة»، ولا يمكن التفكير بشكل عصري، في ظل هذه «الحروب التاريخانية»، المتكئة على تراث كبير من الصراع على السلطة الذي يتبدى في ثوب وطني قومي تارة، وفي ثوب ديني طائفي تارات.
وهنا، يجب أن نفهم أن «المشاكل المعقدة» لا يمكن أن نتغلب عليها إلا بـ»حلول بسيطة». الذين يبحثون عن الحلول لا بد أن يعتمدوا أبسطها، لأن التعقيدات هي هواية ممتهني المشاكل لا صناع الحلول، ولأنه إذا كان الأصل في «المشكل» أن يكون معقداً، فإن الأصل في «الحل» أن يكون في غاية البساطة. يقودنا ذلك إلى نقطة مهمة، وهي أن «الباحثين عن السلطة» يجب أن يفهموا أنه لم يعد بالإمكان احتمال تغليف «شهوة السلطة» لديهم بأوراق يخصفونها من شجرة الدين أو الوطن أو القومية.
معظم الحركات التي اكتست بالثوب الديني أو الوطني أو القومي تكشفت في معظم حالاتها عن «نزوع كبير للسلطة»، والدليل على ذلك أن هذه الحركات التي لبست أثواباً زائفة عادت ومزقت هذه الأثواب، ودخلت في صراعات داخلية، مغطية عوراتها السياسية بقطع مهلهلة من القمصان الممزقة. يجب أن يكون الأمر واضحاً. الصراع اليوم هو صراع قياصرة عرب يحاولون أن يلبسوا مسوح الرهبان، هو صراع «شيوخ قبيلة» يحاولون أن يوهموا أفرادها بأنهم يدافعون عن أرضها وعرضها، في حين أن الهدف الأساس هو الوصول إلى «مشيخة القبيلة» الموبوءة بميراثها وثاراتها والدماء التي تحاصرها من كل الجهات.
يجب أن نقول للناس إن توظيف الدين للوصول إلى السلطة جريمة، ونقول لهم إن الحركات الدينية التي تجعل «الكتب المقدسة» شعارات في حملاتها الانتخابية، إنما تحولها إلى «مانيفست سياسي» غير مقدس.
ويجب أن نقول للناس إن الأنظمة السياسية التي تحارب الحركات الدينية في بلداننا، لا تحاربها لأنها توظف الدين لأغراض سياسية (مع أن هذه الحركات تفعل ذلك)، ولكن الأنظمة السياسية تحارب الحركات الدينية، لتخوف الزعماء من أن تحل تلك الحركات مكان الأنظمة، وإلا فإن الأنظمة توظف الدين سياسياً، كما تفعل هذه الحركات. عندما نصل إلى هذه الخلاصات: سنجد أن أصل المعضلة ليس «تدخل الدين في السياسة»، ولكن سبب البلاء هو «تدخل السياسة في الدين»، ولمزيد من التضليل فإن السياسة التي تدخلت في الدين، اتهمته بالتدخل فيها، إمعاناً في المغالطة بطريقة انتهازية فجة. عندما تعي الشعوب هذه المفاهيم والأفكار، فإن «قميص عثمان» لن يمكن «الأمويين الجدد» من الوصول إلى عرش دمشق، مثلما أن «دماء الحسين» لن تمكن «العباسيين الجدد» من الوصول إلى عرش بغداد. وعندها سنطلب من الأمويين والعباسيين برامج عمل سياسية لكيفية إصلاح شبكة كهرباء بغداد، ورصف طريق دمشق التي خربوها بحروبهم، وسنطالبهم بجداول زمنية لإنجاز مهام تنموية لا سياسية، اقتصادية لا دينية. نحن في الواقع لا نحتاج من الساسة أن يقدموا لنا وصفات في كيفية الوصول إلى الجنة، لسببين: الأول أننا نعرف طريقها، والثاني أن الساسة أجهل الناس بتلك الطريق. نريد من الساسة أن يجعلوا من الأرض جنة، لا أن يدلونا على جنة في السماء.
ومع تكرس تلك المفاهيم، ومع الوقت، سندرك أن السلطة لا الدين- هي المشكلة، والسلطة مشكلة، لأنه إلى حد اللحظة الراهنة لم يتم التوافق على كيفية الوصول إليها في شرقنا العربي، أو أنه إذا تم التوافق نظرياً، فإن التوافق على المستوى العملي يحتاج إلى مزيد من الوقت والدم والدمع والمعاناة السياسية والثقافية والاقتصادية.
ونقول «المعاناة»، لأن المعاناة هي التي تقدح «تجليات الوعي»، والوعي هو ما نحتاجه لتعيين المشكل وتوصيف الحلول.
العالم اليوم كله يتجه إلى «الصناديق لا إلى الخنادق»، للوصول إلى السلطة، لأنه تعدى «مرحلة القبيلة» بمعناها السلبي السائد بيننا اليوم، إلى «مرحلة المجتمع» بمعناه الواسع، لأن «المشيخة» تورث في القبيلة، في حين أن «السلطة» تنتخب في المجتمع، ولأن «المشيخة» تورث، يحدث أن يكون التوريث محل صراع بين الورثة قد تُسَلُّ بفعله السيوف، أما في المجتمع فإن «السلطة» بالتراضي، ولأنها بالتراضي، فإن وسيلة الكشف عن هذا الرضى هي الذهاب لصناديق الاقتراع، التي يجب السعي لتكريسها رغم بعض العوائق التقليدية: الثقافية أو الاجتماعية والسياسية.
وحين يعتمد «صندوق الاقتراع»، سبيلاً وحيداً إلى السلطة، فإن معظم الإشكاليات الطائفية والثقافية ستذوب، لأنها لن تجد من يغذيها بعد ذلك في سبيل الوصول إلى أهدافه السياسية، وسيمارس الناس دينهم الأصفى، ويعيشون حياتهم الأنقى، بعيداً عن التعقيدات التي أوجدها الصراع غير الأخلاقي على السلطة والثروة في هذا المشرق الوجيع.
و»إن في ذلك لعبرة»