عشر عجاف مرت على أول هتاف جريء وكاسر لرتابة الصوت الجنوبي الصادح بوجه طغيان وفساد النظام العائلي القبلي.
فبرغم أن المقاومة الجنوبية، أخذت أشكالاً وأنماطاً وطرقاً كاثرة، عبّرت فيها عن رفضها للحرب ووهم الانتصار في ٧ يوليو ٩٤م، إلا أن هتاف " ثورة ثورة يا جنوب" لم يسمع به إلا عند انطلاقة الحراك الجنوبي في مارس ٢٠٠٧م.
أذكر أنني سمعته ولأول وهلة خلال أمسية رمضانية نظمتها جمعية المتقاعدين بالضالع، وتحديداً حين وصلت طلائع القادمين من ردفان ويافع إلى جوار مستشفى بن عباس وسط مدينة الضالع.
كنت وقتها بمعية الزميلين هاجع الجحافي وعبد السلام جابر، ولكم أدهشت حين التحم هؤلاء وأخذوا يلهجون بهتاف جديد غير مسموح به في السنوات السالفة.
فعلى وقع رقصة حماسية تحول الشارع الأسفلتي إلى كتلة دائرية صاخبة صادحة "ثورة ثورة يا جنوب".
ومذ تلك اللحظة انزلق الجنوبيون وقضيتهم السياسية العادلة إلى مهاوي المجهول.
الثائرون- وهم في غمرة بحثهم عن وطن مفقود وكرامة مهدرة وحق مستباح- غفلوا حقيقة أن الأوطان ليست مساحة تراب فقط، وإنما قبل الجغرافيا هنالك مجتمع إنساني يتشارك الحياة والطموح والمواطنة المتساوية والعدالة والتسامح والخير والعطاء والتضحية والتفاؤل والإنجاز وكتابة التاريخ ووووالخ.
قلت حينها، وفي سلسلة تناولات صحافية، بأن حشد الجنوبيين وعلى أساس العصبية للجغرافيا، ربما قد يفلح في تأليب الجماهير وتثويرها وبشكل سريع وكثيف، لكنه سيكون خطراً على الجنوبيين وعلى قضيتهم العادلة وعلى مسيرة كفاحهم.
في ذينك الوقت وفيما فورة الهتاف تشق عنان السماء، مدوية، مرعبة، مستفزة، معلنة بشارة زوال النظام القبلي الأمني القمعي المتخلف، كنت قد حذرت من مآلات تطويع الجغرافيا وعلى تلك الشاكلة الخطرة البعيدة عن مضامين القضية السياسية ومحتواها العادل.
للأسف البعض أخذ علي وصفي الجنوب ومقاربته ببقرة بني إسرائيل التي اختلف القوم في ماهية لونها وهل ستكون حمراء أو صفراء أو غامقة؟ ودونما اكتراث في حقيقة جوهرها باعتبارها منحة وهبة وآية من ربهم ما يستوجب منهم اليقين والانتفاع بها، بدلاً من التنازع حولها.
نعم، بين الأمس واليوم، مساحة زمنية شاسعة، ومع كل محاولة اقتراب من الجنوب الذي كان والجنوب الذي ينبغي أن يسود، لا أعثر إلا على أصوات طافحة بالغضب والإساءة للآخر المختلف.
وعلى جنوب غريب عجيب يماثل نعامة ضخمة عاجزة عن أن تكون طائراً مغرداً في الفضاء أو أنها صارت حيواناً أليفاً ونافعاً فوق الثرى.
أذكّر الآن لعل وعسى تنفع الذكرى، فالجنوب الذي فاتحته حظراً ومنعاً وتخويناً وتكفيراً، لا أظنه إلا فقاسة من مضغة رديئة موبوءة بالاستبداد والاحتقار والتبعية والإقصاء.
وعلى الجنوبيين ألا تأخذهم الحماسة الزائدة بعيداً عن واقعهم، فنحن في بلاد يدعي أهلها أنها جمهورية وديمقراطية وتعددية وليست مملكة أو إمارة أو سلطنة وراثية سلالية.
وعليه أعد الأخوان شريكاً سياسياً مهماً ومؤثراً وفي أي تسوية تاريخية مستقبلية سواء في الجنوب أو اليمن عموماً.
فالأخوان وإن اختلفنا معهم فكرياً وسياسياً، يبقون في المحصلة كياناً سياسياً ومجتمعياً له وزنه وتأثيره، ما يستوجب منا التعاطي مع هكذا واقع بشيء من الحكمة والتروي والإنصاف، لا بنوع من الشطط والمكابرة والعناد.