أتيت باكراً إلى الكلية ولم تكن لدي محاضرة، بل كان علي الالتقاء بأحد الزملاء كي أعطيه كتباً، وعند وصولي رأيت جمهوراً من الطلاب والطالبات يقفون أمام بوابة الكلية، تقدمت وسألت عن السبب، فتقدم العميد وقال لي: لو سمحت امش من هنا أنت والطلاب..
تأخرت قليلاً وإذا بالعميد يعمل على إبعاد الطلاب من أمام البوابة ويمنعهم من الدخول تحت مبرر عدم دفع الرسوم..
كان حارس البوابة يمنع الطلاب من الدخول بخجل وكأنه يعرف أوضاع الطلاب أكثر من العميد نفسه الذي من المفترض أن يكون هو من يراعي أوضاع طلابه وأبناؤه..
عدت إلى الساحة، وجدت أحد الزملاء الذين عندما التقيهم لا تفارق الابتسامة محياهم، رأيته لم يفتح أي باب للابتسامة، سألته ما بك، قال لي لا شيء، قلت له أراك حزيناً؟، فقال نعم..
لم يسمحوا لي بالدخول إلى المحاضرة ﻷنني لم أدفع الرسوم ولا أمتلك شيئاً أدفعه..
هذا الطالب هو الأول في دفعته، رأيت درجاته بنفسي منذ أن أتى إلى الكلية لأداء اختبار القبول فهو الأول دائماً، ووضعه المعيشي صعب جداً وهو من أسرة فقيرة، لكن العلم والكفاح والأدب والالتزام الدراسي ليس معياراً في كليتنا، فقد تجسد فينا انطباع بأن المال ومن سيدفعه هو المعيار الوحيد في كليتنا التي أخلصنا معها منذ مجيئنا من قرانا..
لم ننزعج يوماً بأن مبنى الكلية هو عبارة عن مكان للحضائر، ولم ننطق بـ "أف" قط عندما كنا نتبلل بسبب الأمطار ونحن في قاعة السبعي أو بدر جابر اللتين هما عبارة عن هناجر يتسرب منهما المطر، لم نغضب يوماً لبعض التعاملات التي تتجاوز لوائح الجامعة من قبل كليتنا، لم نتحدث يوماً عن أي تقصير من قبل الكلية والعمادة، ومع هذا يأت الجزاء ويتم التعامل معنا بأساليب مختلفة لم نشهدها..
حارس البوابة- الذي يحمل البندقية في كتفه والذي تعلم الجندية والعسكرة منذ وقت مبكر- كان ألطف بنا من والدنا العميد، وإن كان الأمر بيده ﻷدخلنا لأجل أن نتعلم ما تبقى لنا، لكن توجيهات العميد كانت أشد وطأ من توجيهات أشرس ضابط في أشرس لواء عسكري..
أحسست شخصياً بأن العمادة تتعامل مع عسكر وليس مع طلاب، تداخلت عليّ الأمور، أين الجندية والعسكرة وأين الأكاديمية، يبدو بأن الأمور قد انقلبت وأصبح الأكاديمي ضابطاً يتعامل مع عساكره والضابط أكاديميا يتعامل مع طلابه..
لم ينظروا للوضع العام للبلاد ناهيك عن الطلاب الذين لا يجدون حتى قيمة المواصلات..
اصبروا على الطلاب قليلاً، أطلقوا رحماتكم وتجاوزوا عن عبئ الطلاب، لا تخلسوا ظهر الطالب وتتعاملون معه كما يتعامل الجندي مع خصمه في معارك القتال، نحن طلاب، في صرح تعليمي، نود المغفرة لما علينا من رسوم، نحن فقراء، لا نعمل، لا ننتج لا ننهب، لا نتاجر، ليس لنا أي مصدر دخل..
نحن طلاب كل ما نمتلكه قلم أوشك على الخلاص استعرناه من جيران الحي، ودفتر يظهر عليه الشيب أهداه لنا أحد موظفي الشركات الدوائية، وملابس نعرضها للغسل كل يوم في أحد المساجد التي يتواجد فيها الماء ﻷننا لا نمتلك غيرها، ومشمع قد ضاع لونه أتينا به من قريتنا نختزله عند صاحب دكان الحي وعند حلول الظلام نأخذه ونذهب للبحث عن مكان لنفترشه وننام عليه..
آه نعم نعم.. لم أنس ولن أنساها، نمتلك أيضاً دعوات أمي التي وعدتنا عند سفرنا بأنها لن تنسانا منها، نعم إنها الدعوات، دعوات آبائنا وأمهاتنا هي من تنير طريقنا حتى الآن، ولولاها لمتنا من القهر والفقر الأحمق، فلتتقوا الدعوات..
عموماً يجب على كليتنا أن تستوعب الوضع وتتعامل بمسؤولية تجاه طلابها فالمنطق لا يؤيد ما يحدث من حرمان الطلاب من الدراسة ويجب أن تحكم كليتنا المنطق، فكما صمدنا كل هذا الوقت يجب على كليتنا أن تصمد معنا لنتجاوز معا كل الصعوبات، أما استمرار الوضع الحالي فالطالب لن يطيقه ولن يستطع الاحتمال..
رسالتي ليست سياسية ولا للمناكفة بل أتيت بها إرضاء لضميري وواجبي الإنساني تجاه زملائي وتجاهي وتجاه العلم، ومع العلم هذا ليس تطاولا على العمادة أبداً..
والله من وراء القصد..