كانت القضية الفلسطينية، والقدس، والأقصى، وعذابات الفلسطينيين، وغرور وكبرياء وصلف إسرائيل إحدى ديناميات النهوض العربي الرئيسية في المراحل المبكرة من خمسينيات القرن الماضي مع نشوء الدولة العربية الحديثة.
أنشأت هذه الدينامية معادلاً شعبياً قوياً على الأرض من أقصى بلاد العرب على مياه الخليج العربي في المشرق إلى أقصاها على الأطلسي في المغرب العربي.
أخذ هذا المعادل الشعبي المفعم بالحيوية ينفتح على قضايا البلاد العربية السياسية والاقتصادية والثقافية: قضايا التحرر وبناء الدولة الوطنية والخلاص من التبعية في صورها المتعددة. وكان هدير الشارع العربي يسمع في كل مكان، وكنا نخرج من المدارس لنلتحق بمسيرات العمال في شوارع عدن والمعلى والشيخ عثمان، ثم نتوقف في مجموعات أمام إحدى المقاهي لنستمع الى تعليق أو خطاب، يأتي عبر الأثير، يتحدث عن مظاهرة في دول المغرب، وعن احتجاجات في مصر، وعن إضراب في تونس، وعن إغلاق ميناء بيروت في وجه السفن التي يشتبه في علاقتها بإسرائيل، وعن مواجهات في دمشق وبغداد والخليج ينقلها "راديو" وضعه صاحب المقهى في مكان بارز وإلى جانبه بطارية ضخمة لتشغيله.
لكن المشكلة هي أن الحماس للتحرير والخلاص من التبعية لم يصاحبه حماس للحرية من أي نوع كان... ظل التحرر شعاراً حماسياً تنقصه الحرية كقيمة إنسانية وثقافية.. نسي الجميع أن التحرير لا معنى له بدون حرية.. لذلك استطاع النظام الرسمي العربي أن يعيد بناء مفهوم التحرير في الوعي على أنه النظام الذي لا شغل له غير مصادرة حرية الناس من "اجل استقرار النظام"، واستقر في هذا الوعي المشوه أن النظام هو الوطن وهو الدولة، وأن الحرية التي تتصادم مع ذلك خيانة.
وكان أن غاب الوطن وغابت دولة الوطن، وحضر النظام الذي أطاح بالاثنين.
وكانت النتيجة أن قمعت تلك الدينامية التي حركت الشارع العربي ذات يوم وتحركت معها ديناميات النهوض الأخرى، والتي ضربت هي أيضاً في العمق.. وأخذت التسويات غير المتكافئة تصفي في طريقها ديناميات النهوض على مستوى الأمة وداخل كل بلد عربي، وكانت الحرية هي الضحية الأولى التي انتهى معها الأمر في نهاية المطاف إلى ضياع كل شيء بما في ذلك التحرر.