قيل بأن وراء كل رجل عظيم هنالك ثمة امرأة عظيمة، ولا أرى في قصة كوريا الجنوبية وعظمتها، غير أنها نتاج امرأة جميلة، اقترنت بابن السماء وفق أسطورة قديمة.
تقول الأسطورة بأن نمر ودبة توسلا الإله "هاوودنغ" ابن السماء كي يحيلهما إلى كائنين بشريين، وأمام توسلاتهما ودموعهما رضخ الإله لطلبهما شريطة أن يخضعان لامتحانه.
أعطي الإله الحيوانين الاثنين حزم الثوم، وطلب منهما، المكوث في غيهب جب مظلم ولمائة يوم، لكن النمر لم يحتمل البقاء في كنف ظلمة ورائحة الثوم الكريهة، فلقد نفد صبره وبعيد ثلاثة أسابيع، فيما الدابة تحملت كل العناء والمشقة حتى بلغت اليوم المائة، فتحولت إلى فتاة ناضخة بالحسن.
لكنها، وبمضي الوقت، بدأت تضيق من حياتها الجديدة؛ فلجأت ثانية للإله أبن السماء كي يساعدها في التغلب على مشكلاتها، فما كان منه إلا أن هبط من السماء ليقترن بالفتاة. ومن تحول الإله والدبة إلى إنسانين ولد الشعب الكوري، المثابر والصابر والخرافي أيضا.
قصة كوريا الجنوبية تماثل الحديث عن الخرافات الأسطورية الإغريقية القديمة، فمن بلاد فقيرة، إلا من الجبال والحروب وأهوالها، إلى واحدة من كبريات الدول الصناعية، وإلى واحدة من الدول الديمقراطية الراسخة.
نعم، نهضة صناعية وعلمية، بدلت ذلكم البلد الآسيوي الصغير، وخلال فترة لا تتعدى العقود الأربعة التالية، لتاريخ البداية والانطلاقة الفعلية لهذا التحول المثير للإعجاب والدهشة معا. كيف لا؟ فكوريا الحديثة المنبعثة من أكوام الخراب والرماد، تشبه لحد ما ولادة طائر الفينيق الأسطوري المبعوث من ركام النار والرماد.
فيكفي الآن رؤية هاتف "جلاكسي" في يد طفل أميركي أو فرنسي أو هندي، ليدرك الإنسان أن مصدر هذه التقنية الساحرة للألباب،هو كوريا الجنوبية، الجزيرة الواقعة في أقصى الشرق.
لا أحدثكم هنا عن ملايين السيارات الأنيقة "هونداي" المشاهدة يوميا في شوارعنا، ولا عن شركة "إل جي" عملاقة الصناعة المنزلية العالمية الحاضرة بمنتجاتها الفاخرة الموجودة في كل سوق وبيت ومتجر.
فقط يمكنني التكلم وبحسرة وألم عن واقعنا الوطني والعربي التعيسين، مقارنة بكوريا البلاد التي لم تنضم للأمم المتحدة،غير نهاية حقبة السبعينات، وبعيد عقد واحد فقط،على فاتحة تحولها على يد جنرال عسكري وصل إلى السلطة،على ظهر دبابة، وفي أول انقلاب عسكري، يحسب له تغيير وطن وشعب، وفي وقت قصير وقصة خرافية تماثل قصة زواج ابن السماء والدبة.
فلم تعرف كوريا الجنوبية الديمقراطية سوى نهاية الثمانينات، فمنذ تاريخ انفصالها عن كوريا الشمالية عام 48م وكوريا الجنوبية واقعة تحت قبضة الحكام العسكريين الذين لا يختلفون كثيراً عن القادة العسكريين في دول ما سمي بالعالم الثالث، وطبعاً الدول العربية مجتمعه ضمن هذا العالم المتخلف اقتصاديا وسياسيا وصناعيا وحقوقيا وديمقراطيا.
الرئيس " روه "، الحاكم المتخلف الذي حكم كوريا الجنوبية، منذ ما بعد انتهاء الحرب الكورية وحتى مطلع الستينات، حين تم عزله بانقلاب عسكري، في مايو 61م،وقاده الجنرال العسكري المستنير والفريد " بارك شانج "، الذي يعتبره الكوريون، مفتاح السر في نهضة بلدهم، وفي تحول مساره من بلد زراعي فقير إلى دولة تزاحم الكبار في مختلف المناحي الاقتصادية والثقافية والعلمية والرياضية والتكنولوجية.
فمن بقايا صناعات قديمة تركتها خلفها أو باعتها الأسر الغنية اليابانية، قدر لكوريا ولوج عالم الصناعة والمصنعين، بل وأكثر، إذ تفوقت شركاتها مثل " سامسونج " و " ال جي " على الشركتين الام " سانيو " و " جولد ستار " .
ما يثير حنقي، هو أننا ورغم عجزنا الفاضح، مازلنا نجيد اختلاق الأعذار والمبررات وبشكل وقح ومستفز لكل ذي بصر وصيرة، فبدلا من تكون قصة كوريا أو سنغافورة او ماليزيا او تركيا او الصين او الهند، مدعاة للإلهام والتأثير فينا، رحنا موظفين مواردنا - وما أكثرها – في صراعات عنيفة، وفي ابتداع ادوات تدميرية، وفي خلافات وأزمات شخصية لا ترتقي لمصاف القضايا الوطنية او القومية، وفي تفاهات الحكام ونزواتهم الغريبة المبددة لآمال مجتمعاتهم في اللحاق بركب الحضارة والتأثير فيها أسوة بالأمم الناهضة الأخرى.