الى جانبي في إحدى قاعات الانتظار في مستشفى "مور فيلد" للعيون في شمال لندن جلس إلى جانبي رجل في الخمسينات يتفحص جريدة. كان الانتظار في الطوارئ مملاً وطويلا، كما هي العادة.
سألني الرجل، وكان بملامح أواسط آسيا وبعيون منغولية، غير أن الزمن، كما يبدو، قد غير في شكلها وأبقى على حدتها.. سألني:
من أين أنت؟
قلت له: من اليمن. وأنت؟
قال: أنا بريطاني أيرلندي، ولكن أصولي ancestorsمن قرغيزيا.
قلت له: من بلاد رسول حمزاتوف؟
صحح معلوماتي...
وقال: رسول حمزاتوف من داغستان. ولكن والدي كان مغرماً بحمزاتوف لدرجة أنه كان يفرض علينا أن نقرأ كل ما كتبه، تقدر تقول ان مؤلفات حمزاتوف هاجرت مع والدي من آسيا الى آيرلندة وبقي هو جزءاً من ذاكرتنا الى اليوم.
سألني: ماذا قرأت لحمزاتوف.
قلت له: رواية "داغستان بلدي أنا"... ومع ذلك لا أدري كيف خلطت بينها وبين قرغيزيا.
قال: في هذه المنطقة المتداخلة، الجغرافيا حديثة.. والتاريخ والثقافة قديمين، ولذلك غالباً ما ينشأ مثل هذا الخلط. في هذه الرواية تنبأ حمزاتوف بسقوط الاتحاد السوفييتي.
سألته: كيف؟
قال: هو لم يقلها صراحة ولكنه صور الشخصية الكامنة للقوميات التي تكون منها الاتحاد السوفييتي كقوة تشق طريقها نحو الانعتاق برفض الانصهار في هوية كبرى لم توفر لها شروط المصالحة..
قلت له: لاحظت ذلك وهو يصور هذا الالتباس الذي يتجسد فيه كمون الهوية الأصلية كيف أن فريق كرة القدم الأوكراني كان مثلاً اذا انتصر في أي مباراة دولية يقول إنه أوكراني، وإذا خسر يقول إنه من الاتحاد السوفييتي.
قال: كان هذا تصويراً بديعاً لتشكل الهوية القهرية التي تتحول مع المدى الى انتهازية لتحمي الهوية الأصلية في الظروف الصعبة وتفشل في أن تحل محلها.
واصل حديثه: هناك مخطوطة تنسب إليه ترجمها والدي الى اللغة الانجليزية بعنوان Love never fails, الحب لا يفشل أبداً. وهي تحكي قصة محارب انتصر بالحب ؛ فقد روض خيله الجامح بالحنان وصقل سيفه بالرعاية وحشد قومه بالعدل والوعد وهزم أعداءه بالتسامح.. قد تتغلب بالكراهية ولكنك لا تصنع بها نصراً.. الحب رديفه القوة، أما الكراهية فرديفها الشراسة. فتش عن أي نجاح ستجد أن وراءه الحب.. حتى عندما يتعين عليك أن تكره فتذكر أن هناك "الحب" الذي إن كرهت فإنما لأجله، وحينها فقط ستكون كراهيتك بناءة وغير مدمرة.
انتهى لقاءنا باستدعائي لمقابلة الطبيب ووعد منه بأن نلتقي لأطلع على تلك المخطوطة التي لم تنشر.