علي عبدالله صالح، حكم هذه البلاد مدة زمنية نيفت الثلاثة عقود، ومع طول الفترة لا يريد الرجل الرحيل الآمن الذي يجنبه مآل الرؤساء مبارك وبن علي والقذافي.
السنوات الخمس الفارطة، كشفت وبجلاء حقيقة السلطة المطلقة باعتبارها مفسدة مطلقة، فتصرفات صالح التالية لتوقيعه على مبادرة، منحته الحصانة وأتباعه من المساءلة، تؤكد وتبرهن بان السلطة مكسبا ومغنما عظيما، وليس مغرما، مثلما حاول الرئيس الأسبق مراراً وتكراراً، تسويق ذاته ككبش فداء أتى برجليه إلى مقصلة الحكام.
تخيلوا حاكما ظل رئيسا قرابة عقود أربعة، وكل مؤهلاته لا تزيد عن إفساد الحياة السياسية، وتدمير ممنهج ليس للدولة ومؤسساتها وتشريعاتها وقوانينها وأنظمتها فحسب، وإنما امتد هذا التخريب لكل شيء، الأحزاب والإعلام والقيم والأفكار والأخلاق والثقافة، وحتى الأعراف والتقاليد القبلية الأصيلة التي لم تسلم من عبثه.
نعم، إذا كان هنالك من نجاح للرئيس المخلوع، فهو نجاحه في إفساد الحياة السياسية، وتدمير عرى ووشائج المجتمع اليمني الذي ظل حصينا وموحدا في زمن الاستعمار الأجنبي، وفي كنف الدولتين الشطريتين.
كما ونجح الرجل في مهمتين أساسيتين، الأولى انه اعتمد مبدأ التآمر كطريقة للإيقاع بمناوئيه السياسيين وطنيا وإقليميا، فيما المهمة الأخرى قدرته على شراء الموالين واستقطابهم، وذلك من خلال إغداقهم بالهبات والعطايا والمناصب، وهذه جميعها أسباب وجيهة لتدمير حرية أي شعب وفق منظور وفلسفة "بلوتارك".
صعوده إلى سدة الرئاسة، كان بمؤامرة ومكيدة خبيثة، وعلى رجل نبيل عصامي كإبراهيم الحمدي، الرئيس المحبوب النزيه الذي من مساوئه الفادحة والكارثية انه رفع ورقى الضابط الخطأ.. قفزة أو قولوا وثبة عالية نقلت صالح من قاع الهامش إلى فضاء الظهور والبروز ولأول مرة وعلى حساب قيادات عسكرية ومدنية اختلفت وقتها مع الرئيس الحمدي وثورته التصحيحية التي كانت غايتها سامية، تمثلت بتطهير الجيش من القيادات القبلية ذات الولاء القبلي الضيق.
وكوجه كالح وبدن منهك هزيل وعقل لا يفقه إلا حبك المكايد وصناعة الأزمات وإنفاق المال العام، قدر لصالح تجاوز طابور طويل من القيادات العسكرية أو المدنية المعروفة في الساحة الوطنية.
صنع المؤتمر الشعبي العام، كتنظيم هلامي مطاطي زئبقي، بهدف احتواء خصومه واستقطابهم إلى كيانه السياسي، العجيب الغريب بكونه جامعا لفسيفساء الأفكار والايديولوجيات والرؤى السياسية والدينية والقبلية والتي قدر لها نظريا الاتفاق والتصالح على موائد ومكرمات ومغانم الرجل المعجزة الجامع لها تحت سقف واحد وقائد واحد.
اتفاق إعلان دولة الوحدة لم يكن أيضا سواء مؤامرة سياسية أثبتت التجربة الممارسة التالية ليوم 22 مايو 90م أن الرئيس الأسبق وقعها ليس اقتناعا بمضامينها النبيلة أو باعتبارها غاية أصيلة وعادلة ستدخله التاريخ السياسي من بوابته الواسعة، وإنما مثلت الوحدة وسيلة للبقاء والاستئثار بالحكم.
ليس هذا فحسب، فحتى مبادرة الخليج التي صيغت في الأساس لأجل انتقال امن للسلطة، ولطالما تباهى الشخص بكونه هو من اعد بنودها، ومع كل ما قيل وسيقال عن مبادرة الخليج، لم تسلم بنود المبادرة من التفخيخ لمضامينها، فبدلا من تحقق الانتقال السياسي المرحلي المزمن، رأيناها تبقي على صالح كزعيم لتنظيم المؤتمر الشعبي، بل وأكثر من ذلك إذ انه ولأول مرة في التاريخ يخرج حاكم من السلطة ليعود إليها كرئيس على الرئيس الخلف.
المؤتمر الشعبي العام المحتفى به اليوم بذكراه الخامسة والثلاثين – 24 أغسطس 1982م – هو ذاته المؤتمر الذي أريد له أن يكون تنظيما خاصا بالرئيس وحاشيته، بل انه المؤتمر الذي طالما استخدمه صالح كمطية لركوب السلطة وكذا لإخضاع خصومه وإجبارهم على الانضمام له كتنظيم جامع لكل الفرقاء المناوئين لحكمه.
سينجح صالح بما يملكه من مال، ومن شبكة علاقات مصلحية فاسدة، في حشد أنصاره إلى ساحة السبعين.
طبعا هذا النجاح ما كان سيتحقق لصالح وأتباعه لولا عاملين اثنين ساعداه على الظهور ثانية، العامل الأول كامن بحلفائه الحوثيين الذين فشلوا في إثبات ذاتهم كحركة سياسية هدفها بناء الدولة والقضاء على منظومة الفساد، على اعتبار أن إسقاط حكومة التوافق حينها كان منطلقه الأساس إسقاط الجرعة ومحاربة الفساد.
أما العامل الآخر فيتمثل بضعف السلطة الشرعية وحلفائها الداعمين لها، ففشل السلطة الشرعية ودول التحالف في القضاء التام على قوى الانقلاب وبطرفيه الحوثي وصالح بدوره ساهم في عودة الروح إلى رأس النظام السابق "صالح"، فلولا هذين العاملين المهمين لكان الرجل الآن إما ميتا أو سجينا أو منفيا أو على الأقل في مصحة نفسية يعالج فيها أمراضه المنهكة والمثقلة لكاهل اليمنيين التواقين رؤية وطنهم وقد تحرر قولا وفعلا من صالح وتنظيمه ومهرجاناته وخطبه ومكايدة وحتى جنونه..