قبل عقد وبضعة أعوام، أنطفأت جذوة الروح في جسد واحد من أجمل وأنبل أدباء ذمار واليمن. وحين يموت أديب أو فقيه أو عالم أو فنان من ذمار، فكأنَّما مات عشرة أمثاله من عموم بلاد اليمن.
ففي فجر أحد أيام الشهر الثاني من العام 2003 - وهو اليوم الذي وافق عيد الأضحى المبارك حينها - أطلق عبدالكريم السوسوة رصاصة قاتلة على قلبه المُضمَّخ بالحب والياسمين وكل طيبة المسالمين.
قيلَ حينها أن صاحبي بلغ قعر القنوط وثمالة الإحباط، وقيلَ: بل ذروة الرعب وبؤرة الهلع، جراء ورود اسمه في قائمة الاغتيال التي وجدت في حوزة قاتل جار الله عمر، وضمَّت عدداً من المثقفين والمبدعين اليمنيين كانوا يقفون في طابور الاغتيال وراء جار الله الذي أُغتيل أواخر العام 2002.
على مرِّ التاريخ، انتحر عديد من الأدباء والمفكرين والعلماء والفنانين وسواهم من المثقفين والمبدعين في شتى بلاد الشرق والغرب، احتجاجاً أو إحباطاً أو تعبيراً عن موقف ما تجاه سوءات المجتمع أو سقطات الفكر أو أحقاد البشر أو سواها من حالات شواذ الفكرة أو شُذَّاذ الأفق.
ففي ربيع 1930 أطلق الشاعر الروسي الفذ فلاديمير ماياكوفيسكي رصاصة في قلبه - ولم يكن قد بلغ من العمر سوى 37 سنة - مقهوراً بالغ القهر من الدولة التي فسدت ومن الحبيبة التي غدرت. وحين أنتحر وجدوا جوار جثته رسالة خطَّها بيده، يطلب فيها عدم اتهام أحد بمصيره المأساوي، ويوصي رفاقه بأفراد أسرته خيراً. كما وجدوا مع الرسالة آخر مسوّدة قصيدة كتبها ولم تكن قد أكتملت بعد، وكانت سطورها تنضح بالمرارة وتكتظ بالآلام من مصائب الحياة وويلات السلطة على السواء.
وفي ربيع 1941 نهش الاكتئاب روح الروائية الانكليزية الرائعة فرجينيا وولف (59 سنة) بعد أن تعاقب الموتى من أهلها وأصدقائها خلال زمن قصير، ثم دمَّرت القاذفات النازية منزلها الجميل في لندن، فألقت بنفسها في النهر بعد أن أرتدت معطفاً ملأته بالحجارة ليثقل فيسهل غرقها، اذْ لم تصعد من النهر إلاَّ جثة هامدة.
وفي صيف 1961 أطلق الكاتب العظيم ارنست هيمنجواي رصاصة على دماغه من فتحة فمه لينهي 62 عاماً من حياة حافلة بالمغامرات والملاحم في الحياة والأدب معاً . وكان هيمنجواي قد عانى من اضطرابات نفسية حادة بلغت حدَّاً خطيراً من الاكتئاب يستعصي على العلاج.
وفي شتاء 1970 قرَّر الروائي والفنان الياباني العبقري يوكيو ميشيما - ذو الـ 45 عاماً - انهاء حياته على طريقة فرسان الساموراي المعروفة بالسيبوكو بأن غرز السيف في بطنه حتى لفظ آخر أنفاسه . وكان قبلها بأشهر قليلة قال في حديث صحافي: "أشعر باحباط شديد تجاه ما يحدث من حولي".
أما الشاعر العربي الكبير خليل حاوي (63 سنة) فقد فجَّر رأسه برصاصة في صيف 1981 على اثر الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، إذْ لم يحتمل رؤية هذا المنظر وجهاً لوجه.
وغير هؤلاء وقبلهم وبعدهم انتحر مبدعون ومفكرون ومثقفون في بلاد مختلفة وأزمنة مختلفة وتحت وطأة ظروف وأسباب مختلفة، غير أنها جميعها لم تكن تشذ عن دوائر الرفض أو الاحتجاج، ومربعات القهر والإحباط، بعد أن أصابهم الاكتئاب أو الانهيار في مقتل.. ولا أظن هذه الظاهرة ستنتهي يوماً مادامت أسبابها مستمرة بل ومتكالبة في تنوعها وتشظّيها!
يصف الدكتور/ محمد جابر الأنصاري، ظاهرة انتحار المثقف - والمثقف العربي على وجه الخصوص- بأنها تعبير عن نزيف وتشقق داخلي يُباعد بين خلايا النفس الجماعية للأمة، فتصبح كل خلية بمعزل عن الأخرى، وينتابها الشعور بأنها قد تمّ التخلّي عنها، قد تمّ هجرها، قد حوصرت وتقطّعت شرايين اتصالها بالخلايا الشقيقة في النسيج الداخلي المحيط بها.
وهنا - عند هذه النقطة بالذات - وكما يشير الأنصاري: تبدأ رحلة الانتحار.. منوّهاً بأن الإقدام على الانتحار في نهاية الأمر هو ذروة الحرب الأهلية داخل النفس الإنسانية أو التعبير النهائي عن تدمير جزء من الذات الواحدة للجزء الآخر منها.
إن انتحار المثقف - كما أراه - صرخة خلاص أخيرة من واقع كئيب أو مجتمع مقيت أو أناس مشوّهين أو مسوخ.
غير أن ثمة نوعاً آخر من حالات انتحار المثقف، لا يُريق فيها ماء روحه، إنما ماء وجهه ومبادئه ومُثُله العليا.. وهذا هو الانتحار الحقيقي الذي يذهب هباءً، من دون أن يَخُطَّ ضوءاً في الدرب، أو يُشعل جذوةً في الأفق.
قد ينتحر المثقف الجميل بإطلاق رصاصة على قلبه أو رأسه.. لكن ذاك المثقف القبيح ينتحر بإطلاق ما هو أكثر قتلاً من الرصاص على ما هو أكثر نُبلاً من الجسد الفاني!