تصور الرئيس السابق صالح أن الفكرة التي أقنع بها الحوثيين بتشكيل "المجلس السياسي وحكومة الإنقاذ" ستصبغ على الانقلاب صفة قانونية، وتمكنه من استكمال بناء الهيكل التنظيمي والإداري للانقلاب الذي سيقدم للعالم كمنافس للشرعية الدستورية التي تم الانقلاب عليها.. واعتقد أنه حتى إذا لم يتم التعامل مع هذا الوضع بصيغة الأمر الواقع المدعوم بحالة الحرب، فإن تضليل العالم بحكومتين ورئاستين وسلطتين سيربك الوضع السياسي على طريقة "الرصاصة اللي ما تصيبش تدوش".
لكن الحقيقة هي أنه لا هذَا تأتى ولا هذَا حصل!!
الرجل الذي شغل اليمنيين بذكائه ومهارته في الرقص على رؤوس الثعابين لم يكن يعرف أن هذه الفكرة ستقضي على آخر أحلامه بمواصلة السيطرة على المقدرات العسكرية والمالية للدولة والتي أبقته حاضراً بقوة في معادلة الحكم حتى بعد أن ترك كرسي الرئاسة.
كان يكفيه أن يظل مسيطراً أو متحكماً في القوة العسكرية، التي بناها بولاءات خاصة وديناميات تعمل خارج الحاجة الوطنية وأبقى على مفاتيحها بيده، لكي يبقى اللاعب رقم واحد في كل المراحل وتحت أي ظرف من الظروف.
في المرحلة الانتقالية أفشل كل المحاولات لإعادة هيكلة الجيش التي تم التوقيع عليها في إطار اتفاقات نقل السلطة إلى نائبه، واستطاعت تركيبة وآليات عمل الجيش الداخلية، وأنساق انتسابه، وعقيدة بنائه أن تبقيه خاضعاً لقراره.
وأبقى، من ناحية أخرى،على مصادره المالية في الشركات والمؤسسات المساهمة والأخرى التي أنشئت على قاعدة احتكارية لمحاسيب وموالين دون مساس.
وبعد الانقلاب ظل يتحكم في هذه العنصرين اللذين منحاه قدراً من التفوق في شراكته مع الحوثيين.. لكن الحوثيين كانوا يدركون أن بقاء الشراكة ومصيرها مرهون بالوضع الذي سيستقر عليه هذان العاملان: الجيش والمال الذي بيد صالح.
حاول الحوثيون اقتحام عناصر قوة صالح تلك، لكن هذه المحاولات كانت تفتقر إلى الغطاء الذي يبرر هذا الاقتحام وخاصة مع شريك الانقلاب.. ناهيك عن أن ميزان القوة كان لا يزال يثير عدداً من التحفظات تجعل أي خطوة من هذا القبيل غير ممكنة.
ثم جاء الغطاء الذي ظل الحوثيون يبحثون عنه وذلك من خلال تشكيل "المجلس السياسي والحكومة" تنفيذاً لفكرة صالح. كان لا بد من أن تتولى "وزارة الدفاع" في تشكيلتهم الحكومية والتي كانت من نصيب الحوثيين مسئولية السيطرة على السلاح والمعسكرات وكل ما يتعلق بالجيش، أي أن انتزاع القوة الأساسية، التي أبقت صالح لاعباً في الحياة السياسية، أصبح مهيئاً بموجب هذا الوضع الجديد. كان أول قرار يتخذ منذئذ هو أنه لا يجوز الاحتفاظ بالسلاح والمعسكرات خارج سيطرة "الدولة".. وأن المعركة تتطلب حشد القوة العسكرية بقيادة وزارة الدفاع.. وأن الشراكة هي شراكة سياسية بين طرفين سياسيين لا يجوز لهما الاحتفاظ بالسلاح، لأن المسئول عن السلاح هي الحكومة. وعندما أدرك صالح أنه هو المستهدف لوح بالانسحاب من الشراكة.. لكن كان الرد هو أنه حتى الانسحاب من هذه الشراكة لا يعني السماح بامتلاك السلاح والمعسكرات.
وجد صالح نفسه أمام معضلة خلقها لنفسه بنفسه، ولأول مرة يختلف عنده حساب الحقل عن حساب البيدق وعلى نحو أظهر هشاشة الشراكة التي قامت على تقديرين متصادمين للشريكين.
فبينما أقام صالح شراكته مع الحوثيين بالاعتماد على مصادر قوته التي رافقت مسيرته السياسية، أقام الحوثيون شراكتهم مع صالح على أساس تجريده من هذه القوة. غير أنهم كانوا يجهلون الطريقة التي ستمكنهم من ذلك. لكن المفارقة هي أن صالح كان هو الذي وفر لهم الشروط الضرورية والكافية للوصول إلى الهدف.
بالنسبة للمال، قام الحوثيون بتجفيف جزء كبير من مصادر المال العائدة لصالح وذلك بوسائل عدة منها السيطرة على فوائض كثير من الشركات والمؤسسات باسم دعم الجبهات. واستطاع الحوثيون عبر "وزارة المالية" التي يسيطرون عليها هي الأخرى اتخاذ إجراءات لمواصلة التجفيف تلك مستخدمين غطاء "الدولة" وسطوتها، وكذا خبرة الكثيرين منهم ممن ظلوا على رأس المؤسسة المالية، وكانوا منتشرين في شرايينها وأوردتها، ويعرفون كل تفاصيل حركة الريال منذ أن يطبع حتى يجمع من قبل البنك المركزي لإحراقه بعد أن تنتهي خدمته. يعني أن الحوثيين لم يكونوا يحتاجون لجهد كبير لمعرفة مصادر التمويل التي تشكل النظام المالي الموازي الذي أنشأه الفساد لتمويل منظومة عمله التي حولت الدولة بأكملها لخدمة القلة ممن سيطروا على ثروة البلاد .
لا يمكن بأي حال من الأحوال الخوض في مستقبل الشراكة لطرفي الانقلاب دون أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار... فصالح بدون عناصر القوة تلك لن يكون غير مظلة لمشروع الحوثيين، وهو الوضع الذي سيبقى عليه الحال بدون مواجهات تذكر بعد أن أسفرت ديناميات الشراكة عن اختلال عميق في المعادلة لصالح الحوثيين الذين أعلنوا مشروعهم مؤخراً بصورة لم يعد فيه أي مجال للاجتهاد.
صالح الذي استخدم أدوات القوة تلك في التمرد على الشراكة السياسية لبناء الدولة عبر العملية السياسية السلمية التي وقع عليها بإرادته ، كما يقول ... يخسرها اليوم عبر شراكة إنتقامية مع الحوثيين لتدمير الدولة بواسطة حرب لا يمكن أن يكون لها عنوان آخر غير أنها حرب الانقلاب على الدولة .