حين جاء خبر استشهاد العملاق عبدالرب الشدادي كنت في مأرب، وكان الخبر عليّ وعلى كل من حولي كالصاعقة. كان يوماً كئيباً وقاسياً لا زلت استحضر تفاصيله.
كان يمكنك مشاهدة حالة الحزن والصدمة والذهول على وجوه الجميع جنودا، ضباطا، مدنيين، باعة، كل من وقعت عليه عيني يوم الجمعة السابع من أكتوبر 2016 في مدينة مأرب كان مذهولاً ومنكسراً.
شهدت مدينة مأرب بل وكل اليمن يومها حالة يتم وحداد عام.. كثيرون كانت دموعهم تفر من أعينهم دون استئذان.. لم يكن يومها أحد قوياً أمام هذا الخبر الصاعقة رغم أنه كان متوقعاً.
كان البطل الشدادي وقد حمل استعادة الجمهورية على عاتقه كقضية لا كوظيفة يرابط في الجبهة أكثر من كل الجنود والضباط، رفض مغادرتها مراراً حتى لتلقي العلاج من إصابات متكررة.
رابط في الجبهة الأكثر سخونة وكان يعلم يقيناً أنه لا استراحة إلا بعد استعادة صرواح التي يستميت الانقلابيون في الدفاع عنها لتبقى جبهتهم المتقدمة غرب مأرب بعد أن تمكن البطل الشدادي والوحدات العسكرية التابعة له ورجال المقاومة من فك الطوق الذي فرضته المليشيات على مأرب.
"لن أعود من صرواح إلا منتصراً أو شهيداً" كانت هذه الجملة هي الرد الذي يلقيه الشدادي في وجه كل من يوجه له النصح بأن يدخل إلى مدينة مأرب ليستريح أو يحذره بضرورة أخذ احتياطات أمنية.
عرفت الشدادي حين كانت قذائف مليشيات الإمامة تهطل كل يوم على مقر المنطقة العسكرية الثالثة، حيث مكتبه، وكان يتواجد فيه بشكل يومي غير آبه بكل هذه القذائف.
أجريت معه حواراً صحفياً منتصف العام 2015 بعد سقوط الجوف في يد الحوثيين وكنت يومها أشعر بوجل على مأرب التي كانت تتعرض لهجمات يومية شرسة تحمل ملامح استماتة من قبل الإنقلابيين للسيطرة عليها، لكن البطل الشدادي كان يبدي ثقة غير عادية في أن مأرب لن تستسلم للغزاة وأنها حصينة برجالها. وفعلاً كانت ثقته في محلها.
كان في المقدمة دوماً في كل هجوم وكان مقتنعاً تماماً أن الأفراد لا يمكن أن يستبسلوا ويخاطروا بحياتهم ما لم يلمسوا الصدق من القائد واستعداده للتضحية، فقد كانت القيادة بالنسبة له تتجسد في الجانب العملي. أن تكون قائداً فذلك يعني أن تكون في الخط الأمامي في الجبهة، أن تكون قائداً فذلك يعني أن تضحي بمصالحك من أجل مصالح أفرادك، أن تكون قائداً فذلك يعني أن تكون حانياً علي أفرادك كأب. تلك الأخلاقيات التي جسدها البطل الشدادي رحمة الله عليه.
كانت القبائل المساندة للجيش تأتي إلى القائد ولديها مطالب وطموحات كثيرة بالحصول على المال والسلاح والرتب لمقاتليها، لكن الشدادي كان لديه كاريزما خاصة وسلطة روحية نادراً ما يمتلكها قائد، يتحدث إليهم بلغة بسيطة وبصدق وتجرد يصهر كل ما بداخلهم من أطماع.
كان يحدثهم عن الجمهورية التي يتخطفها الإماميون الجدد وعن الشرف الذي ينتظر مأرب كونها تمثل الجدار الأخير والحارس الوفي للجمهورية.. ومع هذا لم يكن يدخر شيئاً لينفقه في سبيل تقوية الجبهة وتجهيز المقاتلين إلا أن إخلاصه لقضيته وصدقه مع الله ومع وطنه يحول كل من يقابلهم إلى فدائيين في معركة يؤمن أنها مقدسة.
مات مديناً بالكثير من الأموال فحين تتأخر الاعتمادات الرسمية المخصصة للمنطقة ولتسيير المعارك كان يبادر ويستخدم علاقاته لتوفير إمكانات حتى لا تتوقف المعركة.
كان استشهاده يعتبر الضربة الأشد التي تعرض لها الجيش الوطني حديث التشكل، وكانت نقطة فارقة في سير المعارك في جبهة صرواح التي تمثل نقطة الانطلاق نحو البوابة الجنوبية الشرقية للعاصمة صنعاء، والتي توقفت منذ ذلك الوقت.
كان بطلاً حقيقياً من صنف نادر يمثل التجسيد الحي للأبطال الذين خلدهم التاريخ، ونموذجاً للنقاء في زمن تلوث فيه كثير من الأبطال.
حزننا عليه كبير وأملنا في أن يجسد تلاميذه ورفاقه القيم التي حملها الشهيد وأن يكملوا المسيرة التي بدأها لاستعادة الجمهورية.