المسلم المتدين تدينا تقليدياً يغضب إذا ما نشر رسم مسيء لنبي الإسلام عليه السلام في صحيفة دنماركية، وهذا حقه وواجبه الديني، ولا جدال، لكن هل يلتزم هذا المتدين بما يقوله نبيه؟ أم أن الخروج في مظاهرة- وليس اتباع التعاليم- عملية سهلة للتعبير عن التدين؟ كيف يمكن تفسير الغضب الذي يعتري المتدين لسماعه خبر «تدنيس مسجد» على يد يميني غربي متعصب، مع أن هذا المسلم ربما لا يدخل المساجد، ولا يكترث لتأدية الصلوات؟
أين يكمن الخلل؟
يخيل لي أحياناً أننا عندما نغضب للنبي عليه السلام، أو للقرآن الكريم، فإننا في الواقع نغضب لأنفسنا، لأننا نعتبر النبي والقرآن جزءاً من ممتلكاتنا، ولهذا نغضب على من يتطاول على ممتلكاتنا، أو على شخصياتنا، من دون أن نهتم كثيراً بالعلاقة بيننا وبين ما تعبر عنها – في اللاشعور- ضمن ممتلكاتنا الشخصية، وهذه هي الإساءة الحقيقية للنبي وللقرآن.
يخرج المسلم المتحمس مع مئات آلاف المتظاهرين في الشوارع مندداً بالعمل المسيء للنبي، وداعياً لمقاطعة بضائع الدنمارك والسويد وهولندا، وإذا كان هذا المسلم المتدين منتمياً لجماعات التشيع السياسي، فإنه يزيد عمله الجهادي بالدعوة لموت أميركا وإسرائيل، قبل أن تنتهي المظاهرة بالعودة إلى ثلاجات ممتلئة بالجبنة الدنماركية التي تنتظرهم بعد الفراغ من التظاهرات، التي خرجوا إليها وهم يلبسون «الجينز الأميركي». ومرة في صنعاء، خرجت إحدى هذه المظاهرات المنددة برسم مسيء أعيد نشره في صحيفة اسكندنافية، وتوجه المتظاهرون لنهب محتويات السفارة الأميركية من أثاث وغيره، بعد مغادرة موظفيها عبر مطار صنعاء، وعاد من قادوا المظاهرة حاملين منهوباتهم وهم يلعنون اليهود والأميركيين. هل يكترث مئات الآلاف هؤلاء الذين يخرجون نصرة لنبيهم – وهذا حقهم وواجبهم – هل يكترثون لآلاف المعتقلين في سجون بلدانهم على سبيل المثال؟ هل يضغطون لتحسين ظروف تعليم أبنائهم، أو رفع سقف حرياتهم، أو المطالبة بشيء من العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟
إنهم لا يدركون أن الذي يخرج متظاهراً ضد رسم مسيء، ولا يغضب للمستوى التعليمي «المسيء» الذي وصل إليه أبناؤه، إنما يعبر عن نوع من التناقض الداخلي المؤسس على عدم فهم دينه ودنياه على حد سواء.
المسلمون اليوم يختارون أسهل الطرق في كل شيء، وأسهل الطرق في التنفيس عن الغضب والتعبير عن القيام بالواجب هو الخروج في الشارع للتظاهر، ثم العودة إلى المنزل لمتابعة أخبار التظاهرة. متابعة الأولاد ودراستهم صعبة، العمل الجاد والمثمر في سبيل رفع مستوى الأسرة اقتصادياً يثقل على الذين يستسهلون الهتاف، ولذا من الأسهل لنا أن نعبر عن حبنا للنبي بلعن أميركا وإسرائيل، وسب هولندا والدنمارك. أن نحب النبي بالإخلاص في عمل شريف ينفعنا على المستوى الشخصي والأسري والإنساني، أن نحب النبي كافل الأرامل والأيتام، النبي حالب الشاة وحامل الحطب للعجوز المسنة، النبي خاصف النعل، وراقع الثوب، ومطعم الطعام، فهذا أمر آخر لسنا في وارد التفكير فيه.
ومع ذلك فلا يمكن اتهام مئات الآلاف التي تتظاهر بسبب رسم مسيء للنبي عليه السلام، ثم لا تقوم بواجباتها الأخرى، لا يمكن اتهام هذه الجماهير بالنفاق، قدر ما يمكن إلقاء المسؤولية على المؤسسات الدينية التي فشلت في إنتاج جيل يربط بين تدينه وطريقة سلوكه، أو بين شعائره الدينية وممارساته اليومية، مع أن نصاً ثابتاً في الحديث يقول -على سبيل المثال- إن «الدين المعاملة»، وهناك آية تربط بين الصلاة والسلوك السوي، وتجعله الهدف من الصلاة. يقول الله «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر»، ويقول الحديث «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له».
يبدو أن مناهج التعليم الديني مسؤولة عن إنتاج هذا النوع من التدين، وقد كتب الكثير عن ضرورة مراجعة مناهج التربية في جانبها الديني، وضرورة ربط المادة الدينية بالواقع، بشكل يجعل المسلم لا يحس بأنه إذا تدين يصبح مجافياً للعصر، أو لابساً جبة عربية تعود إلى القرن السابع الميلادي؟
يجب علينا اليوم الفصل بين ما هو من الدين وما هو من أعراف العرب وتقاليد القرن السابع الهجري من مأكل وملبس وأسلوب حياة. يجب كذلك التمييز بين ما هو من الدين وما هو من تقاليد مذاهب أو أحزاب إسلامية حتمتها ضرورات اجتماعية أو سياسية في مكان معين وزمان معين، يجب التفريق بين محكمات الآيات ومتشابهاتها، بين الأصول والفروع.
يجب أن يعرف المسلم اليوم أنه لن يكون مسلماً صالحاً بمجرد أن يخرج في مظاهرة تغلب عليها شتيمة من شتموا نبيه، لأن النبي نفسه لم يسب من سبوه، ولأن القرآن نهى عن سب الأصنام حتى لا يسب عبدتُها «الله عدواً بغير علم»، مع الإيمان بحق التظاهر استنكاراً للاعتداء على المقدسات، والتنديد بحملات الكراهية المنتشرة لدى اليمين الأورو- أميركي هذه الأيام، ولكن بطريقة مثمرة.
التربية الدينية هي تربية روحية سلوكية، وهي منهج تهذيبي أخلاقي قبل أن تكون أي شيء آخر، ويجب عدم الخلط بين الشعارات السياسية والمبادئ الدينية بطريقة تجعل الديني تابعاً للسياسي، بشكل يجني على الاثنين معاً. هذه الطريقة في فهم الإسلام والتدين هي التي أنتجت لنا «داعش» والحشد الشعبي و»القاعدة» و»حزب الله» من جهة، كما أنتجت جماعات جعلت الدين طقوساً وخرافات وشيئاً أشبه بالسحر والشعوذات من جهة أخرى.
الواجب استيعاب تعليم الإسلام لا أيديولوجيات الجماعات الدينية، لأن الإسلام هو المجتمع، لكن الجماعات الدينية تعني المليشيا وغيرها من التنظيمات التي لا يعني وجودها وتناسلها أكثر من ضعف وجود الدول، وتضاؤل احتماليات بقائها، وهذا ما يريده المتربصون بالمسلمين والعرب خاصة، أن يظلوا تحت حكم المليشيات لا الدول، وأن يظلوا في دائرة المذهب لا الدين، وأن تقسمهم الجماعات السياسية بدلاً من أن يوحدهم الإسلام.
اعتقد أن شرور السياسة في منطقتنا الموبوءة بها قد طالت الكثير من مظاهر حياة شعوب هذه المنطقة، حتى لقد غدا كل شيء مسيساً. الحركات الإسلامية تسيس الإسلام، والأنظمة الحاكمة تسيس الدين، وفي الوقت الذي تستدعي فيه حركات الإسلام السياسي أقوال مرشد الجماعة، تستدعي الأنظمة الحاكمة فتاوى سماحة المفتي، وكل ذلك لأغراض سياسية تدور حول السلطة ومتفرعاتها، وتسيء للدين والسياسة معاً. ولهذا فإن المسلمين اليوم بحاجة إلى النأي بالإسلام عن صراعاتهم السياسية، والاتفاق على عدم الاقتباس من القرآن أو الحديث في الحملات الانتخابية، والتركيز على الجوانب الروحية والأخلاقية في الدين، والعمل على ربط التدين بالحياة، بالواقع بإيقاع العصر، والتمسك بالثوابت الدينية، والتعامل مع الفروع بمرونة تليق بحركة التاريخ المتسارعة، من دون أن يعني ذلك عزل الدين عن الحياة العامة بكافة جوانبها، لعدم إمكانية ذلك.
يجب التركيز على الجوهر، وعدم الالتفات للمظهر، وعندها سنغضب للنبي الكريم إذا أسيء إليه بطريقة لا تشبه الزبد الذي يذهب جفاءً، ولكن بعمل ينفع الناس ويمكث في الأرض.
«القدس العربي»