منذ ثورة فبراير بدأت مأرب في كسر الصورة النمطية التي رسخها نظام صالح عنها طوال العقود الماضية أنها بلد العصابات والهمج والمخربين وبدأت في تقديم نفسها بصورة مختلفة عبر نخبة من شبابها الثائر والمثقف والمتماهي مع حلم الدولة.
التفّت قبائل مأرب حول الشباب الذين بدأوا يوضحون للناس مكمن الداء ويكشفون لهم عن الغريم الحقيقي لمارب الذي حرمها من التعليم والتنمية والخدمات وتعمد تشويهها عبر مجموعة من البلاطجة الذين رباهم عفاش خصيصاً لتنفيذ المهمات القذرة التي بدأت بإثارة الحروب القبلية وانتهت بالإرهاب والاختطافات وتخريب شبكة الكهرباء.
يتناقل شباب مأرب قصصاً كثيرة عن جهود صنعاء في فترة حكم صالح في إثارة الصراعات القبلية وتمويل وتسليح تلك الحروب التي شغلت الناس عن حياتهم والتهمت مئات الرجال، ويذكرون كيف عرف شيخ قبيلة من مسؤول مخزن السلاح في صنعاء أن خصمه شيخ القبيلة الأخرى التي يتقاتل معها استلم سلاحاً من ذات المخزن في اليوم السابق.
ورغم إصرار صالح ورجاله على إبقاء مأرب ورجالها في مهمة واحدة ووحيدة هي التخريب عبر تكثيف عمليات تخريب خطوط الكهرباء بعد ثورة فبراير، حيث كان الاسم الأشهر خلال الثلاثة الأعوام التالية لثورة فبراير هو (كلفوت) كرمزية لمجاميع التخريب، إلا أن مارب برجالها وحكمائها كان لديها إصرار أكبر على كسر الصورة النمطية وتمكنت من ذلك بموقفها الخالد من كسر محاولة عصابات الحوثيين وصالح اجتياح مأرب وأجبرت الأحرار من كل محافظات اليمن على احترام صمودها والتحرك لإسنادها دفاعاً عن مارب وعن حلم كل اليمنيين.
تداعى رجال مارب لحماية محافظتهم بينما كانت مليشيات الحوثي لاتزال على مشارف صنعاء فقد كانوا يعلمون أنهم سيكونون الوجهة القادمة، فطنوا إلى ذلك أكثر مما فعلت النخب المتكلسة في صنعاء التي ظلت تلوك تحليلات تبرر تخاذلها وتواطؤها المخزي وذهبت لإقناع الشارع بأن الحوثيين جاؤوا في مهمة محددة ولهم خصم واحد هو الإصلاح فقط وستنتهي مهمتهم وسيتحولون بعدها إلى تيار سياسي ينشر المحبة والسلام.
في مارب لم تلعب الحزبية بعقول الناس كما فعلت في أماكن كثيرة، يدركون بفطرتهم أن الحفاظ على الكيان الجمعي للقبيلة ومن ثم القبائل التي تشكل بمجموعها المحافظة هي أهم من أي حساسيات أو تباينات حزبية.. ويدركون أن ما أمسى بجارك أصبح بدارك.
حاول صالح استخدام أدواته القديمة لفكفكة القبائل حين حاول عبر مشائخ تابعين له تمرير وثيقة قبلية تلزم القبائل بالحياد والسماح للحوثيين بالمرور من الخط الأسود كما فعل في حاشد لكنه لم يتمكن من تمريرها وكان القول الفصل في ذلك لرجال القبائل في المطارح الذين أدركوا اللعبة وكانوا حاجز صد يصعب تجاوزه.. وهاهي ذات الجهات تعود مرة أخرى لمحاولة تجريب ذات التكتيكات مع تغييرات بسيطة في الشخوص والعناوين.
في هذا المشهد المعقد كان سلطان العرادة أحد الرموز القبلية في مارب وأحد أهم رجال الدولة الذين تولوا مقاليد إدارة المحافظة هو حجر الزاوية، فقد تمكن بفائض حكمة من لم شمل القبائل ورص صفوفهم في مواجهة الخطر، ورغم التباينات الكبيرة وتضارب المصالح ومحاولة الأعداء نفخ النار في النزاعات القبلية وإحياء الثارات التي كانوا يؤملون على النفاذ منها إلا أنهم لم يجدوا من منفذ سوى ما تمكنوا منه عبر الوصول إلى بلاد الأشراف التي تحيط بالمدينة وكانت الخطأ الوحيد وأدرك رجال مارب كم دفعوا ثمناً لذلك الخطأ.
مؤخراً عادت مأرب إلى الواجهة وصارت هي المنطقة الأكثر أمناً واستقراراً في اليمن والنموذج الوحيد الناجح للمناطق المحررة الذي حافظ فيه سلطان العرادة على الدولة ومؤسساتها قائمة ولم يسمح بانهيارها رغم الحرب الطويلة التي خاضتها مآرب.
تلك الإشراقة الجديدة أزعجت كثيرين وجعلتهم ينظرون إلى مارب كمصدر إزعاج لأنها تكشف تآمر البعض وعجز البعض الآخر، فقد ظلت تمضي في سياق الإرادة الوطنية بعيداً عن تدخلات الخارج في شأن إدارتها وضبط الأوضاع فيها، كما أنها بقيت بعلم واحد وشرعية واحدة واحتضنت كل اليمنيين وشكلت بذلك قاعدة صلبة للانطلاق في معركة استعادة صنعاء والنظام الجمهوري.
مارب لا تسأل أياً من القادمين إليها من أين أنت؟ ولا ما انتماؤك السياسي؟ وإلى الذين لا يعرفون مأرب سوى عن طريق مجموعة من المفسبكين الذين يضخون أمراضهم ويعرضون خدماتهم على أصحاب الوفرة، فمأرب ومن خلال معرفتنا العميقة بها أكبر من الأحزاب وأعصى من أن يسيطر عليها حزب.
صحيح أن الإصلاح حاضر فيها ولعب دوراً مهماً في حشد القبائل لمساندة وحدات الجيش الذي بقى على ولائه للشرعية في الدفاع عن مأرب، لكن حتى الإصلاح لم يفعل ذلك بآلية العمل الحزبي التي تشتغل عليها الأحزاب في كل المحافظات بل استخدم قدرته على التحالف مع رموز قبلية ومجتمعية وعسكرية وهذا ما يجيده دائماً لدرجة أن من يتمكن من توحيد المواقف معهم يصنفهم الناس على الإصلاح.
ولمن لا يعرفون سلطان العرادة فلم ينتمِ يوماً لحزب الإصلاح، ولأن كثيرين يجهلون ذلك فهو عضو لجنة دائمة في حزب المؤتمر الشعبي وظل ممثلاً عنه في مجلس النواب حتى نهاية الدورة البرلمانية قبل الأخيرة عام 2003.. إلا أن قدرة الإصلاح على نسج التحالفات جعلت العرادة يبدو وكأنه واحد منهم، لكن سلطان وكما يعرفه كثيرون أكبر من كل الانتماءات الحزبية وشكل رجل إجماع في مارب طيلة الفترة الماضية.
ورغم أن التحركات التي تهدف للنيل من مأرب كنموذج قد بدأت قبل فترة إلا أن القرار الأخير بتعيين المداني مديراً لأمن مارب شكل عنواناً جديداً لتلك التحركات التي ظهرت في وقت سابق تحت عناوين من قبيل حرمان بعض المناطق من التنمية وسوقت اتهامات للمحافظ العرادة بأنه ينحاز لقبيلة عبيدة في المناصب والتعيينات على بقية القبائل.
وبالنظر إلى نجاحه في إدارة واحدة من أخطر وأصعب المراحل فإننا نثق في القرارات التي يتخذها المحافظ العرادة، وإن كان قرار تعيين المداني قد جاء من الرئاسة فإنه سيظل محل اختبار على الواقع وحين يبدو منه ما يخل بمسؤوليته سترفع قيادة مأرب في وجهه الكرت الأحمر. إلا أن الأمر غير خاضع لأمزجة ورغبات المفسبكين ومداراة نزق البعض والتماشي مع مصالح وضغائن البعض الآخر، فلا يمكن إرضاء شخص يكتب عن نموذج الدولة في مارب بطريقة أسوأ مما يكتب عنها ناشطو وكتبة الإنقلابيين في صنعاء، أو الاستجابة لشخص بات يعمل بالأجر اليومي لمشاريع خارجية تهدف إلى تكرار إنشاء حزام أمني ونخبة خارج سياق مؤسسات الدولة كما فعلت في محافظات أخرى.
وكل من تابع تغطية إعلام أبو ظبي للحادث الأخير في مارب يدرك أن عناصر في الداخل إنما تدور في ذات الفلك.
مأرب تزعج خصومها حين يرونها تفتتح مشاريع وتسفلت شوارع جديدة، وتزعج خصومها حين يرون وحدات الجيش والأمن فيها تمنح الناس أملاً في عودة الدولة، يموتون غيظاً حين يرون النور يضيء شوارعها ومنازلها، وتقتلهم طوابير الموظفين نهاية كل شهر حين يقفون أمام نافذة الصراف لاستلام مرتباتهم، ويصابون بالاكتئاب حين يرون شموخ قيادتها وعدم استعدادهم للارتهان والتحول إلى أدوات لتنفيذ أجندات لا علاقة لها بمأرب واليمن، وتزعجهم أكثر وهي تقدم نفسها عنواناً لمرحلة جديدة وبذلك يتكاثر الخصوم إلا أنها وبحاستها الوطنية ومشروعها الواضح قادرة على إبطال مفعول كل الألغام الكامنة في طريقها والمضي نحو المستقبل.