قصة إقليم كتالونيا الاسباني، يصعب وجزها بتاريخ أو حدث أو سبب بعينه، إذ أنها مزيج متعدد الأوجه والفصول والتواريخ، فمن جهة يصلح القول بكونها تاريخية بالنظر لمعاناة السكان كأقلية عرقية ثقافية ذاقت التهميش والتنكيل، طوال حقب مختلفة، وليس انتهاء بالحرب الأهلية وحكم الديكتاتور فرانكو الممتد من عام 1939م – 1975م.
كما ويصح القول بأنها اقتصادية وسياسية ولها صلة مباشرة بمشكلات مجتمعية عصرية برزت خلال السنوات الفارطة واستعصى حلها بسبب فقدان الثقة بين حكومة مدريد وحكومة برشلونة، فبرغم ما حققه الإقليم من نجاحات اقتصادية وضعته في المرتبة الرابعة بين اقتصاديات دول "اليورو"، إلَّا أن هذا النجاح له كلفته السياسية، ما يستوجب دفع فاتورته سواء للحكومة المركزية المتمسكة بنصوص دستورية باتت معيقة لتقدم الإقليم، أو للمواطن الكتالوني الذي يتطلع لمكاسب أكبر وأشمل.
وإقليم كتالونيا بهيئته الحالية، تشكل إثر اندماج مقاطعة برشلونة بمقاطعات مجاورة أخرى، خلال القرن التاسع الميلادي، وبدعم من ملك فرنسا "لويس شارلمان" الذي أراد الإقليم كمنطقة عسكرية عازلة بين بلاده والبلاد الإسلامية الآخذة بالتوسع والتمدد ناحية شمال وغرب أوروبا.
ولم تعرف المنطقة بكتالونيا إلا في القرن الثاني عشر، وحين صارت جزءا من مملكة إسبانيا في عهد الملك "فرديناند" الأول والملكة "إيزابيلا"، وبعد اكتشاف القارة الأمريكية تحول مركز الثقل الاقتصادي من سواحل البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي مما أدى إلى انحسار أهمية دور كتالونيا اقتصاديا وسياسيا.
قلق أوروبا من استفتاء كتالونيا يوم الأحد الفاتح من أكتوبر، بسبب ما يعتبره السكان دعما وتشجيعاً لمناطق عدة توجد بها حركات مطالبة بالانفصال، بينها "اسكتلندا" ومنطقة "فلاندرز" في بلجيكا و"جزر فارو" الخاضعة لسيطرة الدنمارك، وإقليم "الباسك" الذي تتقاسمه فرنسا واسبانيا، و"الفلاندرز" الناطق بالهولندية في بلجيكا، وجزيرة "كورسيكا" الفرنسية وغيرها من المناطق المهددة بالانسلاخ ككيانات دولية في حال نجحت عملية الاستفتاء في كتالونيا.
الحزب الانفصالي المتشدد "لا كوب" هدد بتخليه عن رئيس الحكومة "بوغديمون"، الذي هدد هو الآخر حكومة "ماريانو راخوي" في مدريد، بوثيقة الاستقلال المزمع عرضها على البرلمان الكتالوني للتصويت عليها، في حال بقت الحكومة المركزية على موقفها المتصلب من عملية الاستفتاء وتمسكها بنص دستوري يتيح لها استخدام القوة لاذعان الأقاليم لسلطة المركز.
وإقليم كتالونيا الاسباني، مساحته لا تزيد عن 33 ألف كم مربع، وهذه المساحة توازي مساحة بلجيكا وتمثل 8% من مساحة أسبانيا، أما سكانه فنحو 7 ملايين ونصف نسمة، وبنسبة 14 % من إجمالي سكان اسبانيا، وهؤلاء السكان يتوزعون على أكثر من مئة وخمسين قومية، نصفهم تقريباً، ناطقون باللغة الكتالونية، التي هي لغة الإقليم الرسمية في التعاملات الإدارية، ويسهم الإقليم بنسبة 20 بالمئة من إجمالي الناتج القومي لإسبانيا، ويعد الإقليم رابع أكبر اقتصاديات دول اليورو.
ويعد واحداً من 17 إقليما إلى جانب مدينتين، تمتع بالحكم الذاتي، داخل مملكة اسبانيا، وحكومات الأقاليم مسؤولة عن المدارس والجامعات والصحة والخدمات الاجتماعية، والثقافة، والتنمية الحضرية والريفية، وفي بعض الأماكن مسؤولية الشرطة.
وتمايزت اسبانيا التي وصفت بـ"الطاووس" الصاعد، بكونها أعطت الجزء الأكبر من الصلاحيات لحكومات الأقاليم التي تنفق 38 % من حجم الإنفاق السنوي بينما الحكومة المركزية 18% من الإنفاق العام، و 13% منحت للمجالس المحلية، والنسبة المتبقية لنظام الضمان الاجتماعي.
وبرشلونة عرفت ذات حقبة تاريخية بـ "مملكة آرغون"، وهذه المملكة أقيمت عقب انتهاء الفترة الإسلامية في الأندلس وتحديداً خلال القرن الثالث عشر الميلادي، وضمت وقتها أجزاء واسعة من حوض البحر، مثل جزر الباليار ومدينة بلنسية، وتوسعت حتى وصفت بأثينا المتوسط.
دمرت المدينة عام 1714م على يد الملك فيليب الخامس ملك إسبانيا، أثناء ما عرف بالحروب الاسبانية، وعقاباً على تمرد المدينة وثورتها على سلطان الملك أمر ببناء قاعدة عسكرية على أنقاض المدينة ومنع التحدث باللغة الكتالونية وكذا منع التدريس في جامعتها التي افتتحت عام 1450م.
ومنذ احتلال نابليون بونابرت لإسبانيا، بقت برشلونة تابعه للإمبراطورية الفرنسية والى أن تحررت أسوة بالمناطق الاسبانية المحتلة عقب سقوط نابليون.
وفي عهد الجنرال فرانكو (١٩٣٩ - ١٩٧٥) كان الإقليم شهد حركة تمرد تم قمعها وإعدام ناشطين كُثر، وبعيد زوال تلك الحقبة المظلمة، ولجت الدولة الإسبانية مرحلة جديدة فاتحتها دستور عام 78م المانح الحكم الذاتي للأقليات العرقية والثقافية، وعلى قدر ما أعطت المادة الثانية منه هذا الحق، فإنها بالمقابل أعطت حق إجراء استفتاء في هذه الأقاليم للحكومة المركزية وحدها ودون سواها من حكومات وبرلمانات الأقاليم.
وباختصار شديد يمكن القول إن أزمة كتالونيا سببها الأساس اقتصادي مجتمعي إداري، فبعيد تجربة قصيرة من الحكم الذاتي قدر للكتالونيين تحقيق نتائج مذهلة وفي مناحي اقتصادية استثمارية وتجارية وخدمية ونظامية ومعيشية، هذا النجاح زاد من شهية الكتالونيين في المزيد من السلطة الإدارية والمالية على شؤون الإقليم، وهو ما قوبل من الحكومات المركزية في مدريد، بالتعنت والرفض لأي تعديلات دستورية جديدة مانحة لحكومات الإقليم المزيد من الاستقلالية.
أعجبني أحد الخبراء في الشأن الاسباني، لقد أوجز الأزمة المتفاقمة بجملة واحدة، وهي أن إقليم كتالونيا، يماثل سمكة كبرت وتضخمت خلال فترة الحكم الذاتي، وحوض الماء الذي ترعرعت وكبرت فيه بات الآن صغيراً ومعيقاً لسباحتها وانطلاقتها، ما يستوجب من الحكومة المركزية التعاطي بموضوعية مع الحالة القائمة.
فهناك حاجة ورغبة كتالونية بالمزيد من الانجازات والنجاحات، وهذه يستلزمها سلطات أكبر وأوسع، وهذه السلطات يستلزمها تعديلات لدستور البلاد الذي تم صياغته عام 1978م ودون إحداث تعديلات جوهرية فيه تراعي التطورات وتمنح الإقليم سلطات توازي تطلعات وآمال الكتالونيين وحكوماتهم، فإن الأزمة الراهنة ستدفع الكتالونيين لخيارات قاسية ومريرة لن ينفع معها الحلول الأمنية والعسكرية.