الفقر لم يعد يقتصر على الحالة المعيشية للفرد أو المجتمع عموماً وإنما بات الفقر مفهوماً واسعاً وشاملاً يتعدى الجوع والفاقة للملبس والمأكل والدواء، إلى التعليم والصحة والتنمية والخدمات والاستقرار والعدل وحتى الفقر للفرصة والمعلومة والفكرة..
والأمر أيضاً ينطبق على مفاهيم أخرى تبدلت واتسعت وتغيرت بحكم انتمائها للعصر الراهن، فمثلاً: الثورة ظل مفهومها كلاسيكياً متخشباً عند تعريفات تاريخية فلسفية أهمها أن الثورة لا تتحقق ولا تكون ثورة إلا على محتل أو غازً أجنبي.
بمعنى آخر إن الحكم المستبد الظالم الفاسد الكهنوتي السلالي الذي حكم شمال اليمن أو مصر أو العراق أو ليبيا، لا تنطبق عليه شرطية قيام الثورات بحكم أن هذه أنظمة وطنية محلية، لهذا أجد بعض المثقفين الغارقين في الجمود يتعاطون مع هذه الثورات باعتبارها مجرد حركات انقلابية، ودونما إمعان في ما حققته من تحولات كاثرة، وهذه التحولات ما كانت ستتحقق للمجتمعات لولا تلك الثورات وان اختلفت الآراء حول طبيعة الأنظمة السياسية الوطنية الوريثة لتلك الثورات.
حسناً.. الثورات بمفهومها المعاصر تعني التغيير الجذري للمجتمعات وفي مختلف المناحي الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية، وأعتقد أن هنالك مكاسب تحققت للمجتمعات العربية إبان الدولة الوطنية التي أقيمت على أنقاض الأنظمة المحلية المتخلفة أو الاستعمار الأجنبي.
فالثورات يمكن وجزها بتعريف بسيط وهي أنها حدثاً تاريخياً فاصلاً ما بين حقبة ماضوية طويت صفحتها وزالت، وبين حاضر شرع فيه لتأسيس مضمار آخر لمرحلة ثورية جديدة ينبغي بلوغها مستقبلاً، وطبعا هذه المرحلة تختلف كلياً وجذرياً عما ساد قبلها.
البعض للأسف يستكثر على الثورات الشعبية وصفها ب"الثورات"، مع العلم أن هؤلاء لا يترددون لحظة في إطلاق المسمى على الثورات الفرنسية أو الروسية أو سواهما من الثورات الشعبية التي هي في المحصلة قامت على أنظمة ملكية سلالية، وكانت كلفتها سنوات من الاحتراب الأهلي وملايين من القرابين المزهقة.
فيكفي الإشارة هنا إلى أن الثورة البلشفية في روسيا استمرت ستة أعوام وأزهقت خلالها نحو 11مليون إنسان، كذلك الثورة الفرنسية التي ظلت عشرة أعوام، إلى أن استقر الجمهورية الجديدة.
وعلى هذا الأساس الثورات الشعبية العربية، وبرغم ما حدث وسيحدث لها، تبقى في المحصلة ثورات، بما تحمله من مضامين إنسانية وحداثية وتاريخية جديدة، وأعتقد أن الحكم عليها الآن أعده غير منصف، على اعتبار أنها مازالت في طور التشكل والتبلور، وحري بناء ترك المسألة للتاريخ ومؤرخيه، وليس استباق الأحداث ولمجرد إخفاق أو تعثر هنا وهناك.
إنها تماثل ثورات عدة وقعت وأطاحت بكثير من الاعتقادات والممارسات وحتى الأعراف والعلاقات الاجتماعية والدولية، فجميع هذه الأشياء تأثرت وتبدلت بسبب ثورات الاتصالات والمعلومات الواصلة لكل إنسان وعائلة ومجتمع، بل وأكثر إذ أن ثورة الانترنت وتقنياتها أحدثت وخلال عقد الأخير ما لم يحدث خلال قرون من الزمن.
وما حدث لمفهوم الثورة والفقر من تطور اصطلاحي مفاهيمي، يكاد ينطبق على مفاهيم كاثرة، بينها مفهوم الأمية، فهذا المفهوم شهد أيضاً تبدلاً كبيراً وعميقاً وشاملاً، بحكم شروط التحول التاريخي المهول، ففي الحقبة الاستعمارية والى وقت قريب كان مفهوم الأمية مبتسراً بكون الشخص الأمي هو ذاك الذي لا يستطيع القراءة أو الكتابة.
وبرغم أن المفهوم ومن الناحية الاصطلاحية والقانونية والعملية مازال أسيراً لمعاني قديمة حظَّت عليها التشريعات والمواثيق الوطنية والدولية، ومع بقائه ضمن قالبه العتيق، هناك ثورة قدر لها تجاوز الأمية الأبجدية القرائية إلى الأمية الثقافية والفكرية والى الأمية العاجزة عن فهم واستيعاب التطورات التقنية والاتصالية والتكنولوجية المذهلة.
فالشخص الأمي في الوقت الحاضر هو ذاك الذي لا يستطيع استخدام الحاسوب والهواتف الذكية وكاميرات التصوير واجهزة البث الفضائي والصحافة الالكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي مثل "الفيس بوك" و "تويتر" و" الواتساب " و " تيليجرام " و " انستجرام " وسواها من تقنيات الاتصالات العصرية.
طبعاً، الحديث لا يقتصر فقط على مفاهيم الثورات والفقر والأٌمية، وإنما يتعداها لكثير من المفاهيم السياسية والاقتصادية والثقافية التي يحسب لها التماهي مع المتغيرات الحاصلة، بينها السيادة والحدود والتجارة والموارد والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والأقليات والشرعية وسواها من المفردات الحاضرة بقوة وباتت حاملة لمضامين أوسع وأشمل من معانيها التقليدية.