افتقدك علي جرجور "أبا عبود"، ولا أريد أن أودعك اليوم، فمازلت انتظر إطلالة وجهك المكتنز بالعفوية وخفة الدم، بي شوق لضحكتك الطفولية الناضحة براءة وصدق، فكل ما أحببته فيك يستحثني الآن بشوق ولهفة لا تقاومان كيما انتظر زيارتك المباغتة التي وعدتني بها في آخر لقاء جمعني بك في منتهى إجازتك القصيرة.
فإذا كانت الحرب مأساة ولعنة، فإنها بالمقابل امتحانا لمعرفة أصناف البشر، فالأصدقاء الحقيقيون يعرفون وقت المحنة، فلقمان الحكيم له قولة شهيرة مفادها إن ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة: الشجاع في الحرب، والكريم في الحاجة، والحليم في الغضب.
ويحسب لهذه الحرب أنها عرفتني بك كصديق وقريب ورفيق يضاهي آلاف الرجال، ولكم شرفني بمعرفة رجل شجاع مثلك أيها المحارب الجسور. وإذا كان الفيلسوف الفرنسي يضع كل أمجاد العالم في منزلة أدنى واقل من امتلاك الإنسان لصديق صادق، فانك أروع تجسيد للصديق الذي يستحيل أن يضمر في نفسه شيئا من غل أو حسد أو لؤم أو رغبة خبيثة، فكل ما في خالجك رأيته منثوراً في أحاديثك وبيسر وطلاقة لا نظير لها في زمن النفاق والكذب والغدر واللؤم .
ولأنك تخلقت وتشكلت من الصدق ودونما خشية او ارتياب من الكلفة والثمن؛ فحتماً أحببناك من شغاف أفئدتنا، فنحن أحباؤك ورفاقك إبان الحرب في الضالع، عشقنا صحبتك، خفة ظلك، فبرغم هول ما حدث، كنت الشيء الجميل والوحيد الذي يبهجنا ويمنحنا الأمل والتفاؤل، الشيء الذي ينسينا الألم والحزن، وهذه صفة نادرة ولا يمتلكها إلا أناس عظام، واعتقد انك واحد من هؤلاء الرجال الذين لا يغادرون دونما يتركون في نفوسنا أثراً لا يمحى او ينسى .
أبا أزهار وأنهار وأرزاق وإيمان، أصدقك أنني وحين رأيت جثمانك سابحاً فوق أمواج المشيعين أجهشت بالبكاء كطفل وليد انتزع من حضن أمه نزعاً، فحتى تلك الغصة والحرقة التي اعتلجت صدري منذ مهاتفتي الخائبة لك، تحررت فجأة أمام رؤية الأطفال الصغار وهم يهتفون إجلالا واعتزازا بك: " لا إله إلا الله، الشهيد حبيب الله" .
نعم، كنت قد توقفت عن كتابة المرثيات، ربما من فرط رحيل أحبائي وأصدقائي في هذه الحرب اللعينة التي أخذت منا خير الرجال، ومن نجا من هولها لقي حتفه إما بالكوليرا أو السكتة الدماغية أو الإهمال، ففي كل مرة أفقد بها حبيباً أو صديقاً أكتفي مواساته بدمعة حرة هاطلة من مآقي العين، وبزفرة مكبوتة تماثل لظى الجحيم.
لهذا أجدني مضطراً كتابة مرثية، وإن كنت لا أعلم ما إذا كنت أنعيك بها أم أرثي نفسي المكلومة المنكسرة؟. في كلا الحالتين أحسست برغبة البكاء عليك يا غالي، فهل هنالك أتعس من فقدان الإنسان لصديق أو قريب أو عزيز؟ فكيف إذا ما اجتمعت الثلاثة في شخص واحد.
وقد اخترت الكتابة، كوسيلة للتعبير عما يجيش في خوالجي، من معاني موجعة مؤلمة، حيال رحيلك الذي أعده تأخر كثيراً عن موعده، فلكم هي المرات التي وصلني فيها نبأ استشهادك، لكنك وفي كل مرة كنت ترد على مهاتفتي بصوتك العذب الهازئ الضاحك،كما وفي كل مرة اذكرك في المثل الفارسي القائل: الشجاعة بلا حذر حصان أعمى "أجدك تطلق قهقهة عريضة نافذة إلى عنان السماء.
"أبا محسن" خيل لي استشهادك في العملية الإرهابية الغادرة، في عدن يوم الأحد المشئوم 5 نوفمبر، مجرد إشاعة، كنت أمني ذاتي بسماع صوتك مثل كل مرة، إذ اعتدت منك ضحكة طفولية جميلة تماثل ألوان قوس قزح في بهائها وصفائها، لكنني هذه المرة لم اسمع صوتك ولا كلماتك الهازئة، كان صوت رفيقك كافياً كيما أيقن أن روحك الطاهرة النقية صعدت لباريها،وانك هذه المرة بالذات قررت الرحيل ودونما رجعة أو استئذان.
صدقاً، شرفتني بكونك قريبا وصديقا وحبيبا، وشرفني رحيلك الذي لم يكن من أجل غنيمة عابرة أو أرضية منهوبة أو منصب وجاه، وإنما كان من أجل وطن وقضية وكرامة وفي سبيل شعب يستحق التضحية والوفاء والإيثار.
ومثلما قيل بأن الرهيب ليس الموت وإنما الموت المخزي، وأجزم أن استشهادك المشرف دلالة على نقاء روحك، وعلى طيبة قلبك، وعلى نبل مقصدك، وعلى حسن الخاتمة التي اختارها لك الله، فبالموت لا بالكلام يؤكد الشهداء إيمانهم، ومثلما قيل بان الفضيلة كامنة في التضحية بالنفس.
لا أقول لك وداعا أيها القائد الشهم علي جرجور، وإنما أقول لك إنني مازلت انتظرك، وان لم تأت هذه المرة، فليجمعنا الله بك في الفردوس، فالشهادة في سبيل الوطن ليست مصيرا سيئا، بل هي خلود في موت رائع ..
أياً يكن الفراق صعبا وحزيناً، فلأن تعيش يوماً واحدا كالأسد خير من عيش مئة سنة كالنعجة، وقولة الشاعر رامبو هذه تماثل كفاحك وذهابك للموت، ففي المنتهى اخترت ان تعيش حياتك أسداً وان تموت أيضاً أسداً، وهذه مزية لا يظفر بها إلا الرجال الاستثنائيين..