تَتَّسم المجتمعات المتخلفة بتنافُر الوظائف الاجتماعية لأفرادها، ضمن منظومة غير متماسكة الرابطة ولا منسجمة الآلية. وتتدهور الملامح -في هذا المشهد- حتى تبلغ تخوم السخرية الحادة.
إنك تجد رجل العلم أو الفكر يترك مجاله الرفيع ليستدير نحو الساحة السياسية، كوظيفة مباشرة، وليس مجرد موقف عام أو منشط جانبي أو حراك موسمي. ولم أفقه حتى هذه اللحظة أهمية أن يسعى رجل العلم للاتّكاء على وظيفة سياسية، في ظل مجتمع موغل في التخلف الشامل!
وحال أهل العلم والطب والهندسة وما في حُكمها، كحال أهل الإبداع الإنساني الراقي في الآداب والفنون، جميعهم يطمحون لبلوغ سُدَّة السلطة السياسية، لبلوغ ذروة المكانة الاجتماعية المُستمدَّة من نفوذ سياسي، أي من منفذ لا صلة له بالانتاج والابداع أو الاكتشاف والاختراع.
ففي الدول المتقدّمة يحدث أن يتبوَّأ عالِم أو أديب أو فنان منصب رئاسة الدولة (عبدالكلام في الهند، هافل في التشيك وريجان في أميركا، على سبيل المثال)، فتلك المجتمعات بلغت شأواً من التطور يجعلها في مأمن من الضرر بميكانيزم الوظائف الاجتماعية للأفراد والمؤسسات معاً. وهم تحكمهم منظومة ديمقراطية بالغة الالتزام والنفاذ، اِذْ يغدو من الطبيعي أن يعود الأديب أو العالِم أو الفنان الى موقعه الحميم أو الأصيل: الإبداعي أو الاحترافي أو الأكاديمي، بعد أن يقضي الفترة الدستورية للوظيفة السياسية التي تكون موقتة في كل الأحوال وتحت كل الظروف.
وفي صورة أكثر سطوعاً، حتى السياسي المحترف، اثر انقضاء فترة شغله المنصب في رئاسة الدولة أو الحكومة أو الوزارة، يُيَمِّم وجهته شطر حلقة التدريس في الجامعة أو حلبة الإدارة أو الاستشارة في مؤسسة علمية أو استثمارية، أو يعود باحثاً في معهد دراسات أو كاتباً ومُحلّلاً لإحدى الوسائط الإعلامية.. أو حتى كاتباً لمذكراته التي تكون -في غالب الأحيان- في غاية الدسم، لأنها تشبَّعت بالخبرة والمعلومات وحفلت بالمواقف والمنجزات، وليس بالحفلات والرشوات على منوال بعض الساسة في بعض بلاد العالم الثالث بعد الألف!
عرفتُ أكثر من طبيب نطاسي ومهندس عبقري وأديب قدير ترك حرفته المحترمة التي من شأنها أن تدرّ عليه أسباب العيش الرغيد والوجاهة اللامعة والسمعة الطيبة.. ثم راح يسعى وراء منصب سياسي أو حكومي، كان عليه أن يهدر الكثير من وقته وجهده وراحة باله وسعادة أسرته، من أجل بلوغه.. وفي حال بلوغه، كان عليه أن يهدر الأكثر من ذلك كله، ليحتفظ به.. وفي آخر المطاف، أندلق ذلك كله كالماء من بين أصابعه، فاذا به يعود بخُفَّيْ حُنين بعد أن لقيَ مصير الغراب الذي لم يستطع الحفاظ على خطوته الأصلية فيما عجز عن تقليد خطوة الطاؤوس!
ويكون المشهد أكثر تراجيدية، حين يغدو لهثه وراء ذلك الكرسي المشئوم -والتشبُّث به- سبباً مباشراً لحتفه! .. ولطالما حدث هذا المصير المأساوي كثيراً للكثيرين من أهل العلم والفكر في هذا البلد الموغل في تخلفه، والذي تنتقل فيه الخلافات السياسية -وبصورة موغلة في التراجيديا- من منبر الخطابة والكتابة إلى مرمى النيران وغرف الإعدام!