«حاشد» تاريخياً هي السباقة بالتمرد والثورة، إلا أنها للأسف الشديد إذا انكسرت تحولت لعصى غليظة بيد جلاديها، تمردت في عشرينيات القرن الفائت، فأوقع الإمام يحيى الفتنة بين قبائلها، ثم وجه باستباحتها، «قتل، ودمر، وشرد»، وحين مات بعض مشايخها في سجونه، أُفرج عمن تبقى، مكتفياً بأخـذ أبنائهم كـ «رهائن» ليقود أبنه «أحمد» رعاياها المهزومين لمحاربة «الزرانيق».
لم يجنِ السيف أحمد منهم سـوى الهزائم المتتالية، وهي الصورة ذاتها التي تتكرر اليوم بصفاقة في تخوم «تعز»، وقد عبروا حينها عن رضاهم بالعبودية «مُزملين»:
سادتي أنتم نجوم الأرض دايم
من سعادتكم نزلنا التهايم
نرضي الله والإمام
مثلت ثورة «26سبتمبر» لحظة تحول فارقة في مسار «حاشد» السياسي، خرج تمردها عن السياق المُعتاد المناصر لإمام ضد آخر، إلى مساندة الجمهورية الوليدة، ثأراً لمشايخها، وطمعاً في مكاسب الوضع الجديد، قبل التعمق أكثر في تفاصيل هذه الجزئية، نعطي لمحمة موجزة عن ما سبقها.
خلال القرون الأولى من عمر دولة الإمامة، أخذت العلاقة بين الجانبين طابع المد والجزر، حدثت بينهما حروب كثيرة، وقد نجح في إحداها أحمد بن الضحاك الحاشدي باجتياح صعدة «938م»، وعاث فيها نهباً وخرابا، ليقتل بعد «15» عاماً الإمام القاسم بن أحمد، حفيد «الهادي» يحيى، لتتحول «حاشد» بعد انحسار «الإسماعيليين» ودولتهم إلى نصير مُخلص للأئمة.
حين دبَّ الخلاف بين الإمامين الحسين بن القاسم، ومحمد بن إسحاق «1727»، وقف شيخ حاشد علي بن قاسم الأحمر مع الأخير، خاطب منافسه برسالة قاسية، استدعاه «الحسين» على إثرها للتشاور، ثم قتله غدراً بـ «بير الشائف»، ودخل صنعاء ورأسه محمولاً على رمح، الأمر الذي أغضب باقي المشايخ، فاتجهوا جميعاً لمساندة «ابن اسحاق».
بعد تلك الحادثة بـ «163» عاماً وقف حفيده الشيخ/ ناصر بن مبخوت الأحمر في صف الإمام محمد حميد الدين في حروبه ضد الأتراك، وحين توفي الأخير «فبراير1904»، كان سبباً في مبايعة فقهاء الزيدية لولده «يحيى»، امتنع أحدهم عن المبايعة لعدم وجود شرط الكرم والسماحة في الإمام الجديد، فوضع شيخ حاشد يده فوق عصاه؛ وقال مهدداً: «وهذا الشرط الناقص».
بعد «صلح دعان» دبت القطيعة بين الفريقين، أرتمت «حاشد» في أحضان «الإدريسي»، الذي أغدق على مرتزقته بسخاء؛ وهذا باعتقادي يفند ما ذكره الشيخ/ عبدالله بن حسين الأحمر بأن تكفير الإمام للأتراك ثم تصالحه معهم كان سبب ذلك التحول، خاصة وأن الانجليز حضروا هنا كداعمين لـ «الإدريسي» في حربه مع الأتراك.
حين احتدم الصراع بين «الإدريسي» والإمام يحيى، انتصرت «حاشد» لـ «الآل» على «المال»، وساندت الأخير؛ وحين توفي شيخها «ناصر» تعمد من ساندته إذلالها، بحجج واهية مُتصلة بالشريعة، وتوريث النساء، فأعلنت تمردها، وقد نقل أحمد محمد الشامي في كتابه «إمام اليمن» جانباً من ذلك التمرد، وكيف خضد السيف أحمد شوكتها، وقلم أظافرها، وقاد أبناءها المهزومين صوب تهامة.
ولم ينس «الشامي» أن يتحدث عن أهل البيت وحبهم الذي كان يسري في أعصاب أبناء القبائل، ويتمكن من قلوبهم تمكن عصبيتهم لعنصريتهم، وأنهم قد توارثوه عن آبائهم وأمهاتهم، مضيفاً: «وكان في وسعك أن تجد بينهم من لا يهتم بالفروض الدينية، ولا يفهم واجبات الإسلام، ولكنك لن تجد أحداً يتنكر لقبيلته، أو يترخص في حب علي وأبناء علي عليه السلام».
لا أحد كـ «الزبيري» ناهض الإمامة، وكشف مَثالبها، وتنبأ بمآلاتها الكارثية، عاد بعد نجاح الثورة السبتمبرية إلى الوطن، مُفعلاً الروح اليمنية على مبادئ الإسلام، مُساهماً في تقريب وجهات نظر القوى المُتصارعة، كمرجعية صادقة، وأب للجميع، كان كما قال عنه رفيق دربه «النُعمان»: «أطهر مخلوق عرفته الأرض»، لديه روح نقية، وقلب كبير، قال إنه سيهبه لوطنه، فكان ما أراد.
«25» عاماً وأكثر، قضاها مُتنقلاً من منفى إلى آخر، جَعلته لا يرى في القبيلة إلا إيجابياتها، عدَّها جيش الثورة المُنقذ، ولأجل تسليحها أختلف مع «السلال» و«المصريين»، ليسقط في الأخير شهيداً وهو رهن حماياتها، حتى قتلته تم تهريبهم، ولم يتم الكشف عن هَويتهم حتى اللحظة.
أثر «الزبيري» في القبيلة ومشايخها، نجح في استقطاب شيخ «حاشد» عبدالله بن حسين الأحمر، لتتحول ذات القبيلة إلى نصير بارز لـ «الجمهورية»، وداعم ساند لـ «الأحمر» في حربه الثأرية ضد بيت «حميد الدين»، الذين قتلوا أباه وأخاه، نهاية العام «1959».
مُنتصف ذلك العام، عاشت صنعاء وتعز لحظات عصيبة، استغل الأمير «الحسن» غياب أخيه الإمام أحمد، فأوعز لأنصاره القيام بعمليات تخريبية، انتقاماً لحرمانه من ولاية العهد، استنجد الأمير «البدر» بالقبائل، استغلوا ضعفه الشديد، وطلبوا الأموال الطائلة نضير مساندتهم له، وفي ذروة ابتزازهم دعموا طموحات الثائر/ حميد بن حسين الأحمر، ونصبوه رئيساً لـ «جمهورية» يتيمة، حضرت في زامل:
سلام يا حاشد ويا صُبة بكيل
من بعد هذا تسمعون أخبارها
إمامنا الناصر ومن بعده حميد
سبحان من رد العوايد لأهلها
عاد «الناصر» أحمد من «روما»، وأطلق لحظة وصوله ميناء الحديدة خطاب مُجلجل، أسماه «الصرخة الكبرى»، قال فيه: «لن يخيفني أخضر ولا أحمر، وهذا الفرس وهذا الميدان، ومن كذّب جرّب»، وردد:
ماذا يريدونها لا درَّ درُّهمُ
إن الإمامة لا يطوى لها عَلمُ
غادرت القبائل صنعاء مفزوعة مذعورة، توالت الحملات العَسكرية عليها حتى سلمت ما أخذته؛ وفوقه رهائن جديدة لتأكيد الطاعة؛ أما حميد الأحمر الثائر المخدوع، فقد خذله «المُتفيدون»، وامتنعوا عن نُصرته، وحالوا بينه وبين «بيحان»، المنطقة التي عزم على الهرب إليها، وسلموه هدية للطاغية أحمد، بعد أن نهبوا «جنبيته» وأمواله، وكان مصيره وأبوه الإعدام بحد السيف.
وكما وصل «ابن الضحاك» قبل أكثر من «1000» عام إلى صعدة، وصلت إليها في ستينيات القرن الفائت مجاميع حاشدية بقيادة الشيخ الأحمر، ومجاهد أبو شوارب، أعادوها لكنف الجمهورية أكثر من مرة، بمساعدة مائزة من «قبيلة سحار»، التي هي في الأصل بطنٌ من بطون «حاشد».
في الوقت الذي وقفت فيه قبائل صعدة مع الإمامة، ناصرت «سحار» الجمهورية، وقد نجح أفراد منها باغتيال الأمير عبد الله بن الحسن «يوليو1969»، مارس الإماميون فيها جرائمهم الشنيعة، لتأتي بعد ذلك معركة «وادي نشور»، حيث استطاعت قوات حاشدية كبيرة أن تطرد القوات الإمامية إلى خارج الحدود.
في مذكراته وصف الشيخ الأحمر «حاشد» بأنها حامية الثورة، ونصيرة مكتسباتها، ولولا نجدتها ما كان هناك جمهورية، كما اعترف أنه لو لم يقتل الإمام أحمد أباه وأخاه لقاتل وقبيلته في صفوف الملكية، «الأحمر» لم يتهم أبناء قبيلته الذين قاتلوا في الجانب الآخر بالخيانة، بل أشاد بهم، وببطولاتهم، ليتحد وإياهم بعد المصالحة الوطنية لمواجهة المد الشيوعي القادم من الجنوب.