زرتُ العاصمة الأردنية غير مرة. وفي كل مرة كنت أعجب لعدم مصادفتي شحّاذاً، فثمّة في عمَّان لا تجد هذه الفئة إلا لماماً. الأمر ذاته حدث لي في دبي، وفي مسقط أيضاً.
تساءلتُ: أليست هذه المدن الثلاث عربية؟.. أين الشحاذون إذن!
الحق أن الشحاذين صاروا في نظري ظاهرة عربية أصيلة، وبعد زيارتي لبلاد إسلامية غير عربية -كأندونيسيا وماليزيا- صارت النظرة إليهم كظاهرة إسلامية، حتى في أثيوبيا -ذات الأديان والأعراق المتعددة- لم أجد الشحاذة إلاَّ حكراً على الفئة المسلمة!
فهل صارت هذه الظاهرة جزءاً حميماً من الفولكلور القومي والحضاري التليد للعرب والمسلمين؟
أم أن العرب والمسلمين لا يستطيعون العيش في مجتمع خالٍ من الشحاذين؟
لا أعتقد أن مطبوعة صحافية تصدر في أي مكان في العالم لم تنشر يوماً شيئاً عن ظاهرة التسوُّل هنا أو هناك.
وأذكر أنني قرأت غير مرة موضوعات وأخباراً عن المتسولين، أتَّسمت حيناً بالمأساوية، واتَّصفت حيناً آخر بالغرابة أو الطرافة، بل أنني قرأت يوماً أن شحاذاً صار مليونيراً!
وذات يوم مرَّ بي شحاذ أعمى تقوده طفلة رثَّة الملابس وبائسة الملامح، في أحد مقاهي صنعاء، فأقسم لي صديق كان قاعداً بجواري أن ذلك الشحاذ يملك عمارة شاهقة في واحد من أرقى أحياء المدينة!
وطالعتُ مرةً عبر شبكة الانترنت ملخصاً لدراسة سوسيولوجية تتحدث عن ظاهرة التسول وعالم المتسولين وقد اكتظت بحشد من المعلومات والبيانات المثيرة للفزع الشديد. تكشف الدراسة الصادرة عن منظمة اليونيسيف عن توافر بين 100 و150 مليوناً من الشحاذين في العالم، فيما ثمة بين 7 و10 ملايين شحاذاً في الوطن العربي.
أي أنه يمكن لمّ شمل هؤلاء الأخيرين لتكوين شعب عربي أو دولة عربية من الشحاذين!
لظاهرة التسول -والتسول في العالم العربي بالذات- أسباب وأبعاد وانزياحات اقتصادية واجتماعية، بل وسياسية أيضاً.. غير أنني لست بصدد نقاشها ولا حتى استعراضها -هنا- فالمجال والحيز لا يستوفيان موضوعاً كهذا هو رهن اهتمام ندوات متخصصة أو دراسات مختصة يعجز عمود صحافي سيَّار عن الإمساك بأطراف تلابيبها.
كما أن للتسول عادات ووسائل تعكس ثقافة وحضارة هذا المجتمع أو ذاك.. ففي البلاد المتقدمة -كأوروبا مثالاً- يتسولون عبر العزف على آلة موسيقية أو الاستعراض بألاعيب بهلوانية أو استخدام حيوانات مثيرة لمتعة البشر.. أما في البلاد المتخلفة -والبلاد العربية بالذات- فيدهمك المتسولون في الطرقات والأسواق وعند إشارات المرور بطرق بدائية بل وعنيفة أحياناً.. وإذ يستخدم شحاذ عاهته الجسدية أو عاهة طفل أو شيخ لاستدرار العطف، يلجأ آخر لإحداثها في نفسه لهذا الغرض!
في اليمن، للتسول تاريخ وتراث وفنون وآداب.
غير أن ما يُميِّز اليمنيين عن سواهم -في هذا المضمار- أن الله أبتلاهم بحُكَّام لطالما تسوَّلوا بهم وشحذوا باسمهم، وقد يُحدِثون فيهم العاهات والويلات لاستدرار عطف العالم الغني، برغم أن واقع اليمنيين هو بذاته عاهة مستديمة مكثفة منذ أن تفرَّقت أيدي سبأ!
وقد صرت أخشى يوماً يقودنا فيه واقعنا الأليم عموماً -والحرب الكارثية التي نشهدها منذ ثلاث سنوات ولا يبدو أن أفقها قريب الحدّ خصوصاً- إلى أن نهجر جميعنا مكاتبنا ومصانعنا وحقولنا، لنهرع إلى قارعة طريق العالم وأيدينا ممدودة ومرددين: حَسَنَة قليلة تمنع بلاوي ثقيلة.. لله يا مُحسنين!